آراء
السّلام عليك يا أنس في عليائك.
سلامٌ على روحك التي تجاوزت الأسلاك الشائكة والحصار، وانطلقت من أزقّة جباليا إلى فسحة أبديّة لا يقيّدها قصفٌ ولا يحدُّها جدار. سلامٌ عليك وأنت تترك خلفك وصيّة، ليست مجّرد كلمات أخيرة، بل وثيقة عهد بينك وبيننا، بين شهيد صادق وأمّة مؤتمنة.
وصلتنا كلماتك، وقرأناها وكأنّنا نسمع صوتك في كلِّ حرف: “إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أنّ إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي”، لكنّنا يا أنس نعلم أنّ صوتك لم يُسكت، بل انتشر في كلِّ بيتٍ وشارع ومنبر، وصار الحرف الذي كتبتَه سطرًا في تاريخٍ لا يُمحَى.
كنت يا أنس ابن المخيم، ابن المجدل السّليب، ابن فلسطين كلّها. عشت الألم بكلّ تفاصيله، وذُقت الوجع والفقد، لكنّك لم تنكفئ على جرحك، بل حوّلته إلى نافذةٍ يرى منها العالم غزّة كما هي، بلا رتوش ولا تزوير، حتى قلت في وصيّتك: “عسى أن يكون الله شاهدًا على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا”.
أوصيتنا بفلسطين، ووصفتها بأنّها “درّة تاج المسلمين، ونبض قلب كلّ حرّ في هذا العالم”. وأوصيتنا بأطفالها المظلومين الذين لم يمهلهم العمر ليحلموا. أوصيتنا ألّا تسكتنا القيود، ولا تقعدنا الحدود، وأن نكون الجسر بين المحاصرين وبين الحريّة.
لكن وصّيتك يا أنس، وإن كانت موجّهة لأهلك وأصدقائك، فهي في الحقيقة رسالة إلى كل الأمة إلينا جميعًا. لقد تركت لنا إرثًا أثقل من الذهب، إرث الدم والحقيقة. فكيف سنؤدّيها يا أنس؟
سنؤدّيها إذا حفظنا الحكاية كما نقلتها أنت، إذا أبقينا الرواية الفلسطينيّة خالصة من التزوير، إذا علّمنا أبناءنا أنّ اسم عسقلان ليس في كتب التّاريخ فقط، بل في وجداننا وذاكرتنا الحيّة. سنؤدّيها إذا أوصلنا للعالم أنّ غزّة ليست مجرّد مكانٍ للحرب، بل مدينة للعلم والفن والحياة، حاصرها الاحتلال لأنّه يخشى ضوءها.
سنؤدّيها إذا تذكّرنا أنّ وصيّتك للأمة ليست كلامًا عابرًا، بل نداءٌ بأن نبقى شهودًا على الجريمة، وألّا نسمح للنسيان أن يدفن الأشلاء مرتين: مرة تحت الركام، ومرة في الذاكرة.
أنت يا أنس لم تكن وحدك، بل كنت تمثّل جيلًا من الصحفيين والمراسلين الذين آثروا أن يكونوا في الخطوط الأماميّة، يلتقطون الصور من قلب النّار، ليكتبوا التّاريخ بدمائهم. واليوم، بعد رحيلك، أصبحت صورتك مع الكاميرا بندقيةً مرفوعة، تُذكّرنا بأنّ الإعلام المخلص مقاومة، وأنّ الكلمة الحرّة جهاد.
لقد أوصيتنا بشامٍ وصلاح، بأمك، بزوجتك الحبيبة، لكنّنا نعلم أنّ شامًا وصلاحًا هما رمز لكلّ أبناء الشهداء، وأنّ الأمَّ الفلسطينيّة التي فقدت ابنها هي أمٌّ لكلّ الأمة، وأنّ الزوجة الصابرة التي حملت الأمانة في غياب زوجها هي أخت لنا جميعًا.
نم قرير العين يا أنس…
فدمك صار منارة، وصوتك صار نشيدًا، وصورتك صارت راية.
وها نحن نردّد معك وصيّتك الأخيرة: “لا تنسوا غزّة… ولا تنسوني من صالح دعائكم”.
لكنّنا نعلم أنّ الدعاء وحده لا يكفي،
أداء الوصيّة يعني أن نكون أوفياء للحقّ في كلّ منبر، وأن نحمل معركتك إلى الإعلام والمجالس والجامعات والأسواق، وأن ندعم من بقي على الأرض ثابتًا، بالكلمة، بالموقف، بالمقاطعة، بالدعم المالي، وبنشر الحقيقة. أداء الوصيّة يعني أن لا نترك قضيّة فلسطين تغيب عن وعينا، وأن نصنع من كل فرصة منصةً لفضح الاحتلال.
فهذه وصيّتك يا أنس، ونحن أمام الله مسؤولون: إمّا أن نؤدّيها كما أردت، أو نكون ممّن سكتوا وقبلوا.
ونحن، والله، لا نقبل.






