آراء
يتيمةٌ غزَّة اليوم يا أنس!
تبكي بلا صوتٍ، كنتَ أنتَ صوتها!
أتذكّرُ بما عزَّيتُكَ باستشهاد إسماعيل؟!
قلتُ لكَ يومها:
لن يشهدَ الجميعُ النّصر،
استُشهِدَ ياسرُ وسُميّة قبل الهجرة،
واستُشهِدَ حمزة ومصعب قبل الفتح،
نحن مسؤولون عن السّعي لا عن النتائج،
عن المسير لا عن الوصول،
عن القتال لا عن النّصر،
أمّا النّصرُ فهو وعد الله آتٍ لا محالة،
وكلُّ من مات على الطّريق فاز ولو لم يصِل!
أعدتُ نشرَ هذه الكلمات قبل استشهادكَ بساعاتٍ، ولم أتخيَّلْ للحظةٍ أنَّ ما قيل لك تثبيتًا وعزاءً، سيُقالُ فيكَ رثاءً!
على أيَّةِ حالٍ لن أرثيكَ، الرِّثاءُ موتٌ آخر يا أنس، ولن أجمعَ عليكَ مَيْتَتَين!
نحن حين نرثي أحبابنا فإنَّنا نُهيل عليهم التُّرابَ مرَّةً أخرى، يكفينا مصابُنا فيكَ مرَّةً واحدةً، فهو بالكادِ يُحتمل!
غير أنَّ هذه الكلمات هي حقُّكَ عليَّ، أحتاجها أنا، وأنتَ في غنىً عنها، فأعظمَ اللهُ أجركَ فينا إن لم نُحسِنْ ثأركَ!
لن أرثيكَ، لا من شُحِّ المفرداتِ، ولا من ضيقِ العِباراتِ، وإنَّما الرِّثاءُ إقرارٌ بالرَّحيلِ، وأنتَ ستبقى فينا إلى الأبد!
إنَّ الرِّجال لا يموتون بموتهم، وإنَّما يموتون بنسيانهم، وخيانة عهدهم، وأنتَ باقٍ بيننا بقاءَ الزَّيتون في فلسطين، وآثار أقدامكَ على الطريق ستبقى محفورةً في قلوبنا حتى يبلغَ آخرنا آخرها، وإنَّ عمركَ سيكون أطول بكثيرٍ من أعمارِ قاتليكَ، فاستَرِحْ الآن، يكفيكَ من النَّصبِ ما لاقيتَ، ويكفيكَ من الفُرقةِ ما كابدتَ، ويكفيكَ من الجوعِ ما احتملتَ، فاهنأْ بما آتاكَ اللهُ، فإننا نغبطُكَ!
لن أرثيكَ، الرَّثاء بكاء، ولا وقتَ للدُّموع الآن، الجرحُ الذي يُبكى يُنسى، ونحن لا نريدُ أن ننسى! سنؤجِّلُ دموعنا حتى يوم التَّحرير الذي كنتَ تُعدُّ له، وفي باحات المسجدِ الأقصى محررًا بإذن الله، سنبكيكَ كما تستحقُّ أن تُبكَى، هناكَ حين نبحثُ عنكَ ولا نجدكَ، ولكنَّكَ يومها ستكون حاضرًا أكثر من كلِّ الحاضرين، ولكن لا بأس أن نبكي حضوركَ!
أتذكَّرُ يوم قلتَ لي: اِحتفظْ بهذه الصُّورة لتكون ذكرى إذا استُشهدتُ!
قلتُ لكَ يومها: لا تقل هذا!
وكنتُ يومها أعرفُ وتعرفُ أنَّ الكلام لا يُقدِّمُ ولا يُؤخِّرُ!
أمَّا اليوم فوحدي أعرفُ أنكَ كنتَ أجمل من أن تبقى في دُنيا كهذه!
السَّلامُ عليكَ يا أنس كم مرَّةٍ وقفتَ متحاملًا على نفسك من الجوع كي يأكل غيركَ!
كم مرَّةٍ خنقتَ دمعتكَ كي لا تنفلتَ منكَ لأنَّكَ كنت تعرفُ أنَّ مدينةً كاملةً تتكىء عليكَ!
كم مرَّةٍ غالبتَ شوقكَ لزوجتكَ وأولادكَ فآثرتَ أَلَّا تذهب إليهم واشتريتَ سلامتهم بشوقكَ!
كم مرَّةٍ شيَّعتَ حبيبًا وأنتَ تعرفُ أنَّك ستكون الجنازة القادمة!
نحن اليوم لا نُشيِّعكَ، نحن نزفُّكَ كما يليق بأعراس الشُّهداء أن تكون!
في الخالدين يا أنس، في الخالدين يا صاحبي!