سياسة
لم أحظ يومًا بقضيّة أثمر من ذلك استدلالًا وأدقّ حساسيّة من تلك، الأبرز في دعم فلسطين والفصائل المقاومة حتى وإن اختلفوا معها في أوقات حكمها للقطاع. اخترت هذين المثالين هذه المرة لأدلّل على أمرين: كيف تصنع إرادات الشعوب سياسات الدول إذا اختُبرت، وكيف تجلب السلطة العار على شعوبها إن مالت وخابت سياساتها.
كولومبيا ودولة فلسطين
اعترفت كولومبيا بعد ١٨ عامًا من إنكار الحقّ الفلسطينيّ الذي لا يُمنح بل ينزّه فاعله ويضعه على الجانب الأخلاقيّ من التاريخ، ووقع الأمران حين اعترفت كولومبيا بفلسطين دولة عام ٢٠١٨. يرجع ذلك إلى موقف قوي لكولومبيا بسبب علاقات استراتيجيّة ثابتة تربطها بالولايات المتحدة وإسرائيل. اعتمدت في المحافل الدوليّة طريقة مائعة لطالما انطلت للمناورة وهي الحياد، ما صبّ طبعًا في صالح إسرائيل. لكن نهاية أجل الرئيس ”خوان مانويل سانتوس“ أنهت إنكارًا طويلًا لكولومبيا بالفعل في أغسطس ٢٠١٨.
ثم جاءت حقبة جوستاف بيترو، وهو يساريّ الهوى، ليتسق أكثر مع سياق عام بين الدول المتزاملة في الحيّز، فضلًا عن أنّه من أقوى المناصرين للفلسطينيين في القارة الجنوبيّة بأكملها.
وقف بيترو منذ حرب غزة ٢٠٢٣ مواقف واضحة جلت مياعة سانتوس وسلطته فحدث ما أرمي إليه. سطّر شعب كولومبيا باختياره بيترو موقفًا أخلاقيًّا يُحسب لكولومبيا:
هذا الموقف جعل كولومبيا من الدول القليلة عالميًّا التي لم تكتفِ بالإدانة، بل اتخذت إجراءات دبلوماسيّة فعليّة.
كوبا: فيدرر شبح لن يزول
مرة أخرى تنتصر إرادة الشعوب في سطر التاريخ الأكثر أخلاقيّة، وانحيازات واضحة لمساندة شعب لشعب، لا سلطة لسلطة. فمنذ انتصار الثورة الكوبيّة في ١٩٥٩، تبنّت كوبا الإرادة الشعبيّة موقفًا ثابتًا بدعم حركات التحرّر الوطنيّ، وفي قلبها القضية الفلسطينية. أشدّد على خيارات الشعب فيما يلي باختياره بالثورة مسارًا يُلزم الدولة (وليس السلطة فهي زائلة والدولة باقية):
كما وفّرت كوبا دعمًا ميدانيًّا وسياسيًّا، إذ:
للمرة الأولى أعتمد كصحفيّة لربع قرن الذكاء الاصطناعي وسيلة للبحث عن وثائق قد تستغرقني أسابيع للبحث، ووجدت أنّه من الأمانة أن أفصح عن المصدر لتوثيق سبيل البحث للزملاء الصحفيين وللقراء الأفاضل. بحثت في التالي ووجدت ضالتي بتحديد ما أبحث عنه بدقة شديدة. وإلى حضراتكم ما انتهيت إليه من مراجع اخترت منها ما يلي لئلا أحمل مقالًا ما قد تتسع له دراسة أكاديميّة أشدّ عمقًا وأدقّ تخصصًا:
الوثائق المتاحة للعامة والباحثين تتضمن ولا تنحصر في نصوص كاملة لمخاطبات الرئيس الكولومبيّ غوستافو بيترو عن القضية الفلسطينيّة، بما في ذلك الخطابات التي دشّن فيها قرار قطع العلاقات، وخطاب افتتاح سفارة كولومبيا الرمزيّة في رام الله.. كذلك رصدتُ وثائق المحكمة الجنائية الدولية (ICC) أو المحكمة الدولية (ICJ) التي تم تقديمها من قبل دول مثل كولومبيا أو كوبا، تتعلق بملفات حقوق الإنسان وحالات إبادة جماعيّة أو تفويضات قانونيّة ضد إسرائيل. بحثت عن أرشيف الخطاب الكوبيّ والمواقف الرسميّة لفيدل كاسترو وحركة عدم الانحياز حول فلسطين – وشمل بحثي البيانات الحكوميّة، الخطابات الرسميّة، والمشاركة الكوبيّة في الأمم المتحدة عبر العقود. لمعت أيضا برامج المنح الدراسيّة والتدريب التي تقدّمها كوبا للطلاب الفلسطينيين (مع بيانات الأعداد، التخصصات، السنوات، وأماكن تنفيذ البرامج التعليمية والطبية). وانتقيت للقراء الأفاضل منها ما يلي:
خطاب الرئيس غوستافو بيترو في الأول من مايو ٢٠٢٤ (يوم العمال)
خلال خطابٍ جماهيريّ في ساحة بوليفار بوجوتا، أعلن بيترو قراره الرسميّ بقطع العلاقات الدبلوماسيّة مع إسرائيل اعتبارًا من يوم الثاني من مايو ٢٠٢٤. وصف الحكومة الإسرائيلية بأنّها “حكومة إبادة جماعيّة“. فقال نصًا: “غدًا، ستُقطَع العلاقات الدبلوماسيّة مع دولة إسرائيل… لامتلاكها حكومة، ولأنّ لديها رئيسًا إباديًّا. وأضاف: “إذا ماتت فلسطين، فإنّ الإنسانيّة تموت، ولن نتركها تموت“.
في أكتوبر ٢٠٢٣، وصف بيترو أفعال إسرائيل بأنّها مشابهة لأفعال النازيين، بعد تصريحات وزير دفاعها عن السكان الفلسطينيين بأنّهم “حيوانات بشريّة“.
أيضًا، أوقف بيترو شراء الأسلحة من إسرائيل وأعلن تعليق مبيعات الفحم الإسرائيليّ، معتبرًا أنّ ذلك جزءًا من العقوبات حتى توقف ”الإبادة”.
وأضع بين يدي القراء ما يلي من نصوص بالبحث في المصادر المفتوحة بعيدا عن الذكاء الاصطناعي: بعض مواقف كولومبيا من القضية الفلسطينيّة، مشفوعة ببعض الوثائق الحكوميّة والمصادر الرسميّة:
نشرت سفارة كولومبيا في واشنطن بيانًا رسميًّا واضحًا يشمل:
في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: دعا لعقد مؤتمر سلام خاص للفلسطينيين قبل بدء الحرب، وحذّر بيترو من أنّ ”وفاة“ غّزة تعني وفاة الإنسانيّة. ووصف المسؤولين الذين يضحكون على مأساة الأطفال في الغزو بأنّهم “ضحايا القوة المطلقة” و”لا يسمعونا عند التصويت لقانون لمنع الإبادة”، ودان الانتخابات الضغوط العالميّة ودعا لوضع حد للعنف والتمييز، وأعرب عن وقوف كولومبيا الدائم مع القانون الدوليّ والسلام.
– في ساحة نيويورك عقب الجمعية العامة: شدّد على أنّ اللاتينيين لن يشاركوا في حروب لا يخدمون فيها السلام، بل يبقون ملتزمين بحل سلميّ وإنسانيّ.
– في قمة لاهاي / بوغوتا (يوليو ٢٠٢٥): استضافتها كولومبيا بقيادة بيترو، وحضرت فيها ٣٢ دولة ناقشت ستة إجراءات عقابيّة قانونيّة واقتصاديّة ضد إسرائيل ضمن مجموعة Hague Group. دعمت الإجراءات كولومبيا ووصفت الجرائم في غزّة بأنّها إبادة جماعيّة. وأعلنت كولومبيا في يناير٢٠٢٥ التالي: ”كنّا ضمن الدول المؤسسة لمجموعة الجنائيّة الدوليّة Hague Group التي تدعو مشفوعة بتقارير الرائعة فرانشيسكا ألبانيز المقرِّرة الخاصة الأمميّة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة لتنفيذ أوامر المحكمة الجنائيّة الدوليّة بشأن أوامر اعتقال صادرة في نوفمبر ٢٠٢٤ ضدّ نتنياهو وغيره، وتطالب بمنع تحويل أسلحة لإسرائيل. وصف بيترو الاتهامات بأنّها “منطقيّة” ورفض تجاهلها.
جيفارا – في الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ
من أروع ما قرأت من السير العربيّة عن جيفارا ما كتبه رفيقه أنطونيو التلحمي (أنطونيو الكولومبي) في كتابه “أنطونيو التلحمي.. رفيق تشي جيفارا“،الذي أرَّخ لموقف جيفارا النبيل من فلسطين. المدهش في سيرة التلحمي مع جيفارا هي سيرة الفلسطينيّين في أمريكا اللاتينية، الذين يروي عنهم التلحمي ممثّلين في والده الذي هاجر كمئات من جيله إلى القارّة في نهاية القرن التاسع عشر. السيرة نادرة لأنّ التاريخ ظالم، أو قل المؤرخون ظالمون. فالنضال في هذه البقعة لا يقلّ أهمية عن النضال في بقاعٍ أخرى ربما أُرِّخ لهم أفضل وأعمق. ولا يمكن الحديث عن شجن القارّة الجنوبيّة وكوبا إلّا بافتقاد بدرها المغدور تشي جيفارا، الذي اغتاله العقل نفسه الذي يمدّ في أجل الاحتلال الإسرائيليّ اليوم، والذي عاش ثائرًا ومات عزيزًا، داعمًا لفلسطين ومصر والجزائر ورفيقًا لكاسترو على كلّ ما اقترف الآخير من آثام أو لم يرتكب مدفوعًا بمفاسد السلطة المطلقة وأحلام السيادة والشموليّة وامتلاك سلطة على شعوب ناضلت من أجل الحرية، وربّما تسبقها فلسطين في تحقيق ما تطلّعت إليه ولم تنله وسيشهد عليها وعلى فلسطين التاريخ.. غير الظالم هذه المرة.





