آراء
تقولُ لي امرأة بجانبي في المقعد الأوَّل من السيارة، لقد قصّوا من عظم ابني الجريح 5 سم، والآن أخبروني بعد أنْ ظهر عليها الدود بأنّهم قد يضطرون لبترها فليس هنالك مضادّات للالتهابات،
دعوتُ لها وأمّنت ودعت لي وأمّنتُ، ودعونا للشعب كله وأمنّا،
ثمَّ مرّت عربةٌ من أمامنا تحملُ مجموعة من لصوص شاحنات المساعدات، فقالت لي: لا أعرف كيف يستطيعون اللصوص السرقة؟ أحيانًا أقوم باستدانة شيكل واحد ولا أستطيع النوم، أخاف أن أموت فيظلَّ معلّقًا برقبتي، فكيف حال السارق!
قلتُ لها: السارق ينام مطمئنًا دون أنْ يرهق ذهنه بالتفكير، وحدهم الذين يعرفون الله لا يعرفون النوم وهم يصالحون الله في كل لحظاتهم ودقائقهم الصغيرة ويستشعرون رضاه عنهم ورضاهم عنه
نزلت من السيارة وشدّت على يدي وهي تؤكد لي أنّ الحال سيتحسن، ومن شدّة يقينها نسيتُ أنّها ذاهبة من أجل استجداء تحويلة طبيّة لابنها من أجل السفر كي لا يتمّ بتر قدمه.
بعد نزولها، لم أشعر أنّ المقعد اتّسع، مع أنَّ كرسيًّا واحدًا في المقعد الأماميّ لا يتسع لشخصين، وقد أغلقتُ باب السيارة بصعوبة كبيرة بسبب ضيق مساحة الكرسيّ، لكنّ الأمر لم يتغير بعد نزول تلك المرأة.
وفكّرتُ لوهلة، ما هو الضيق والاتّساع؟ وكيف قد يشاركك شخصٌ مساحةً ضيقةً جدًا فلا تستشعر الضيق، بينما هنالك أناس يتشاركون قصورًا، ويشعرون أنّها نصفُ كرسيّ يجلس عليه عشرة أشخاص ..
آلمتني مشاهد السيارات التي تبدو كالجار والمجرور، مشاهد عجيبة حتى ربما لم أشاهد مثلها في أفلام الكرتون الخياليّة، مشهد مرعب ومضحك في الآن ذاته، لا أجد له توصيفًا.
كلُّ سيارةٍ لها عربة تجرها وراءها أشبه بعربة قطار مصغرة، تكتنز بالناس وبحاجياتهم، يجلس شخصين في المقعد الأماميّ للسيارة الأساسيّة وقدر ما استطاعت أن تستوعب أشخاصًا في المقعد الخلفي، ثم يجلس شخصٌ فوق مقدّمة السيارة، يتعلق آخر خلف العربة وآخرون فوق تلك الحلقة التي تربط السيارة بالعربة التي تجرّها، تسير مثقلة جدًّا، وأحياناً أشعر بأنّ هذا الثقل هو ليس بسبب أعداد الراكبين الكبير، بل لحجم عذاباتهم ومآسيهم، وفي النهاية هو ليس مشهدًا لسيارة، هو مشهدٌ لصورةٍ من صور الحرب التي يجب أن نرويها، حتى إذا ركب أحدٌ فيما بعد سيارة فيها تبريد واستطاع أن يلفّ حول صدره حزام الأمان، وأن يشاهد عيونه وتسريحة شعره عبر مرآتها، أن يشكر الله ويحمده على هذه التفاصيل التي لم يكن يدرك في سابق أمره كم هي تفاصيل منعشة.
تؤلمني جدًّا هذه مشاهد الاستيلاء على شاحنات المساعدات في غزّة، وكأنّ شعبها تحوّل لمجموعة من اللصوص والتجار المحتكرين وقطّاع الطرق الذي يصل بهم الإجرام إلى القتل من أجل سرقة كيس طحين.
تغرق في عيوني الدموع، أبحث عن صورةٍ شافية، عن صوتٍ يخفّف عنّي هذا الحال الأليم الذي لا يشبه أهل غزّة، فيحضرني صوت تلك المرأة الراضية الجميلة وهي تقول لي:
لا أعرف كيف يسرقون،
حينما أستدين شيكلًا واحدًا فأنا لا أستطيع النوم.
وصلّى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم