مجتمع

المدارس الخاصة في الشمال: من التعليم إلى الاستثمار؟

أغسطس 6, 2025

المدارس الخاصة في الشمال: من التعليم إلى الاستثمار؟

لطالما كان التعليم في المجتمعات حول العالم بناء لركيزةٍ لا غنى عنها في صقل مهارات الأفراد وصناعة مستقبلهم، وهو حقٌ مشروعٌ تحميه المواثيق الدولية العالمية وتعمل على حراسته وصونه الأمم الواعية أداة للنهضة والتحرر، لكن هذا الحق أصبح أكثر هشاشةً وعُرضةً للسلب في شمال سوريا، فلم يكن الدمار الذي طال المدارس والبنى التحتية التعليمية طوال سنوات الحرب والثورة عبارة عن أضرارٍ جانبية للحرب، بل كان سياسة ممنهجة اتبعها نظام الأسد البائد لقمع وعي الشباب السوري وتشتيت العقول، ليفتح الباب أمام مجتمعٍ مُفكك من جذوره.

 

 فمع انطلاق الثورة السورية عام 2011 وفي سنواتها اللاحقة، تعرّض قطاع التعليم لزلال كبيرٍ مدمر، شَمَل مئات المدارس التي خرجت عن الخدمة بسبب القصف المُمنهج أو الاحتلال العسكري من قبلِ مليشيات الأسد وحلفائها في المنطقة، والقرى والمدن الكاملة التي تعرضت لتهجيرٍ قسريٍّ بعد تدميرها ثم احتلالها نحو الشمال السوري، مما فاقم أعداد الطلبة بطريقةٍ غير مسبوقة، ومع كل هذا التوسّع السكاني، غاب الدعم الدولي الحقيقي الذي يحتاجه قطاع التعليم، وكأنما هناك يد خفيّة تساهم في عدم السماح لهذا الجيل أن ينهض أو يتعلم، ليصبح مستقبله مصادراً أمام عينيه.

 

وفي هذا الشرخ الكبير، ولد التعليم الخاص شمال سوريا، ليس استجابة لحاجة مجتمعٍ متهالك، بل كان فرصةً استثمارية في كثيرٍ من الحالات، ليملأ فراغ الدولة مستغلّاً الغياب الرقابي، ليتغذى على انهيار التعليم المجاني، ومع الوقت، لم تعد هذه المدارس إلا مشاريعَ ربحيةً صريحة، تقفُ خلفها أحلام مئات آلاف الطلبة في الشمال السوري، لتُعاد صياغةُ التعليم من كونهِ خدمةً عامة إلى كونه امتيازاً لمن يملك المال فقط.

 

وبينما تستمر أجور المعلّمين في المدارس الحكومية بالانخفاض حتى باتت لا تسدّ رمقاً، وجد كثير منهم في التعليم الخاص مخرجاً للعيش، ولو على حساب العدالة التعليمية، وهكذا تحوّل التعليم شمال سوريا إلى ميدان مزدوج: نزفٌ في التعليم العام، وتضخمٌ مادي في التعليم الخاص.

 

 

التعليم الخاص يثقل كاهل المجتمع 

تمددت المدارس الخاصة في الشمال السوري استجابةً طارئة لفراغ الدعم الدولي وانهيار التعليم العام، لكن الاستجابة بدأت تتلاشى رويداً لتتحول لسوقٍ مُغلقٍ يعترف فقط بالقدرةِ المالية، فمع غياب الرقابة عليها، أصبح التعليم في كثير من المناطق حقاً فقط لمن يدفع أكثر، بينما يُترك أبناء الطبقةِ الفقيرةِ لمصيرهم المجهول، لم يقتصر الضرر فقط على تكلفة الأقساط التي أرهقت كاهل الأهالي، بل امتدّ لخلق فجوةٍ طبقيّة عميقة بين من يحظى بتعليم حديث وموارد جيدة، ومن يُترك في مدارس عامة تفتقر للكوادر والوسائل، هذا الخلل لا يُهدّد فقط العدالة التعليمية، بل يزرع بذوراً مستقبلية للغضب الاجتماعي والانقسام الطبقي، ويكرّس جيلاً يشعر أن مستقبله يُشترى بالمال لا بالاجتهاد.

 

تقول ربا الرشيد، وهي مدرّسة في إحدى مدارس الشمال السوري بجنديرس، “المشكلة اليوم ليست فقط في غلاء التعليم الخاص، بل في غياب البديل، التعليم العام في وضعه الحالي لا يستطيع المنافسة، وهذا يشجّع الأهالي رغم فقرهم على التوجّه نحو المدارس الخاصة، الحلّ يبدأ بدعم حقيقي ومُنظّم للمدارس العامة، تحسين رواتب المعلمين، توفير وسائل التعليم، والأهم تفعيل الرقابة على التعليم الخاص ليكون مكمّلاً لا بديلاً أو عبئاً”.

 

وتضيف، “لدينا فرصة حقيقية الآن، بعد سقوط النظام السابق، أن نُعيد هيكلة مفهوم التعليم، الحكومة الجديدة مطالبة بأن تضع التعليم على رأس أولوياتها، لا كعبء، بل كاستثمار وطني يُعيد للناس كرامتهم ويصنع جيلاً قادراً على النهوض، في ظل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، من غير المنطقي تحميل الأهالي أعباءً إضافية فقط ليضمنوا لأبنائهم مقعداً دراسياً محترماً، فالتعليم يجب أن يكون وظيفة الدولة الأساسية، لا مشروعاً للقطاع الخاص، وإذا استمرت الأمور على هذا النحو، فإن الخطر لا يقتصر على الحاضر، بل يمتد إلى مصير أجيال كاملة ستحمل في ذاكرتها أن الفقر كان حاجزاً بينها وبين مستقبلها”.

 

في السنوات الأخيرة، شهد التعليم العام في شمال سوريا تراجعاً واضحاً في استقراره الوظيفي، انعكس في تسرب أعداد متزايدة من المعلمين نحو المدارس الخاصة، الدافع الرئيسي كان وما يزال الأجر الزهيد الذي يتقاضاه المعلم في القطاع العام، والذي لا يلبّي حتى أبسط متطلبات المعيشة، في ظل أزمة اقتصادية خانقة تعيشها المنطقة منذ أكثر من عقد.

 

غير أن المشكلة تتجاوز الجوانب المادية، فالمدارس العامة لم تعد توفر للمعلمين الحد الأدنى من الأمان المهني، أو بيئة العمل المناسبة، مما جعل من القطاع الخاص وجهةً بديلة يسعى من خلالها المعلم لتحسين أوضاعه، وبذلك، أصبح التعليم الخاص يجتذب الكفاءات، بينما تفرغ المدارس العامة تدريجياً من خبراتها، وتزداد الفجوة بين المؤسستين.

 

هذا الخلل لا يمس النظام التعليمي وحده، بل يحمل آثاراً اجتماعية أعمق، كما يشير مصطفى عمر ديب، المرشد الاجتماعي في مدينة أعزاز، بقوله  لموقع سطور سوريا، “حين يغادر المعلمون مدارس الدولة، لا نخسر كوادر تعليمية فقط، بل نخسر النموذج الأخلاقي والقيمي الذي يشكّل أساس المدرسة العامة، التعليم ليس فقط معلومة، بل هو علاقة وجدانية وتربوية، حين تُترك المدارس العامة دون معلّمين أكفاء، يُترك خلفهم آلاف الأطفال في حالة فراغ تربوي خطير”.

 

ويتابع ديب، “المدرسة الخاصة بطبيعتها توجّه رسائل ضمنية بأن من يملك المال هو الأحق بالتعليم الأفضل، وهذا يشكّل خطراً على المساواة المجتمعية، لا بدّ من ضبط هذا النزيف من خلال تحسين رواتب المعلمين، وتوفير بيئة جاذبة في المدارس العامة، وإلا فإن العدالة التعليمية ستظل حبراً على ورق”.

 

 

هل تنصف الدولة الجديدة أبناءها في التعليم؟

بعد سقوط النظام السوري أواخر عام 2024، تنفّس السوريون الصعداء، وأيقنوا أن باباً جديداً فُتح أمامهم لإعادة بناء ما دُمّر في عهد القمع والتمييز، وكان من الطبيعي أن يُطرح التعليم كأولوية قصوى في هذا البناء، لا بصفته قطاعاً خدمياً فقط، بل لكونه حجر الأساس في تأسيس الدولة العادلة، ومع ذلك فإن التعامل الحالي مع التعليم خصوصاً في مناطق الشمال يوحي بأن البنية القديمة ما زالت تفرض نفسها، بشكل جديد، وبوسائل أقل صدامية لكن لا تقل خطورة.

 

غياب الخطط الواضحة، واستمرار خصخصة التعليم بلا رقابة، والتجاهل المتكرر لمعاناة الطلاب من الطبقات المهمشة، كلها عوامل تهيّئ الأرض لإعادة إنتاج طبقية معرفية لا تختلف في جوهرها عمّا كان عليه الحال تحت حكم الأسد.

 

التعليم اليوم لا يحتاج فقط إلى مدارس، بل إلى رؤية سياسية وأخلاقية تضعه في مركز المشروع الوطني الجديد، وتؤمن بأن كل طفل مهما كان أصله أو وضعه يستحق تعليماً عادلاً يفتح له باب المستقبل.

 

تقول شهد ياسين، طالبة ثانوية من دير الزور ومقيمة في عفرين شمالي حلب لموقع سطور سوريا، “كنت أحلم أن أدرس الطب، لكن المدرسة المجانية في منطقتنا مغلقة بسبب نقص الكادر، والمدرسة الخاصة قسطها الشهري يعادل دخل عائلتي، أدرس وحدي عبر الإنترنت، وأحياناً أشعر أنني في سباق خاسر.. لا لأنني ضعيفة، بل لأن الطريق أمامي مغلق بالوضع المادي الراهن والذي فرضته الظروف المحيطة”.

 

هذه الشهادة البسيطة تختصر مشهداً معقّداً: فالحلم موجود، لكن الطريق إليه محفوف بالعوائق، وهنا يأتي دور الدولة الجديدة في تصحيح المسار، لا بتقديم الوعود، بل بوضع خطط شاملة لإحياء التعليم العام، ووقف التسيّب في التعليم الخاص، وتكريس مبدأ أن التعليم ليس سلعة، بل حق لا يُمس.

إن لم تُبادر السلطات الجديدة إلى سدّ هذه الفجوة المتسعة، فإن العواقب لن تكون تعليمية فقط، بل اجتماعية وسياسية، جيلٌ يشعر أنه حُرم من حقه، سيكبر على شعور بالخذلان، وقد يتحول مع الوقت إلى ناقم على الدولة نفسها، هذه لحظة مفصلية: إما أن يُبنى التعليم على أسس العدالة، أو نُعيد الغرق في دوامة التهميش التي كانت وقوداً للثورة ذاتها، وتنطبق هذه التفاصيل والظروف على المناطق التي تم تحريرها من مليشيات الأسد البائد.

 

ما زالت الفرصة سانحة لبناء تعليم يليق بتضحيات السوريين، فالمطلوب فقط أن تُدرك الدولة الجديدة أن العدالة تبدأ من المدرسة، التعليم ليس ترفاً، بل حجر الأساس لأي نهضة، وإنصافه اليوم ليس مجاملة، بل ضرورة تؤسس لمجتمع متماسك لا يُقصي أحداً من الحلم، الفرصة لم تفت بعد، والمشهد العام اليوم  بما فيه من نهوض مؤسساتي نسبي وحالة وعي اجتماعي متقدم يتيح للحكومة الجديدة أن تبرهن على جديّتها في رعاية مستقبل أبنائها، المُراد ليس المعجزات، بل قرارات شجاعة تعيد التوازن للمدارس العامة، وتضبط التعليم الخاص، وتستثمر في الإنسان قبل أي شيء.

شارك