سياسة
يشهد السودان حربًا معقدة منذ أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» شبه العسكرية. تفاقمت هذه الأزمة في عام 2025 بخطوتين خطيرتين: إعلان ميليشيا الدعم السريع عن تشكيل “حكومة موازية” تدير المناطق الخاضعة لسيطرتها، وظهور تقارير عن مقاتلين مرتزقة أجانب (من بينهم كولومبيون) يقاتلون إلى جانب تلك الميليشيا. أثارت هذه التطورات المخاوف حول وحدة السودان ومستقبله، حيث يرى البعض فيها نمطًا شبيهًا بما حدث في ليبيا واليمن من انقسام السلطة وتدخلات خارجية. بيد أن الحالة السودانية تبدو أشد خطورة نظرًا لحجم السودان وموقعه الجغرافي الحساس وتعدد الجهات الإقليمية المتورطة.
حكومة موازية لقوات الدعم السريع في السودان
أعلنت قوات الدعم السريع وحلفاؤها عن تشكيل حكومة انتقالية موازية تحمل اسم “حكومة السلام والوحدة” في أواخر يوليو 2025. جاء هذا الإعلان عبر تحالف يُدعى “تحالف التأسيس” الذي يضم ميليشيا الدعم السريع وبعض الجماعات المتمردة والمدنية المتحالفة معها. وجرى الكشف عن هذه الحكومة في مؤتمر صحفي بمدينة نيالا (كبرى مدن إقليم دارفور والخاضعة بغالبيتها لسيطرة الدعم السريع). يتكون الهيكل الإداري للحكومة الموازية من مجلس رئاسي يضم 15 عضوًا أغلبهم من القيادات العسكرية الموالية للدعم السريع إلى جانب بعض المدنيين. وقد نُصِّب قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) رئيسًا لهذا المجلس الرئاسي، فيما عُيِّن عبد العزيز الحلو زعيم (الحركة الشعبية/شمال) نائبًا له. وتم تعيين السياسي محمد حسن التعايشي (وهو مدني من دارفور وعضو سابق في مجلس السيادة الانتقالي بعد سقوط البشير) في منصب رئيس الوزراء للحكومة الموازية. كما أُعلن عن تعيين ولاة (حكام أقاليم) لإدارة الولايات السودانية المختلفة بما فيها ولايات لا تزال تحت سيطرة الجيش، في خطوة اعتبرها كثيرون رمزية تهدف لتحدي شرعية حكومة الخرطوم أكثر من كونها واقعًا إداريًا. وتوزعت المناصب الأخرى بين ممثلي الفصائل المسلحة المتحالفة؛ حيث تشير التقارير إلى أن نحو 47% من المناصب مُنحت لقادة ومناصرين تابعين للدعم السريع، وحوالي ثلث المناصب ذهبت لعناصر من حركة (الحركة الشعبية/شمال) بقيادة الحلو، فيما مُنحت بقية المناصب لجماعات متمردة أصغر وحركات سياسية انضمت لتحالف التأسيس. ومن الأمثلة على الشخصيات البارزة التي ضمّتها هذه التشكيلة: سليمان صندل (من حركة العدل والمساواة بجناح منشق) الذي عُيّن وزيرًا للداخلية، والطاهر حجر (من تجمع قوى تحرير السودان) كعضو في المجلس القيادي للحكومة الموازية.
حريّ بالذكر، أنّ خطوة الدعم السريع بتشكيل حكومة موازية قوبلت برفض واسع داخليًا وخارجيًا، إذ اعتبرها الجيش السوداني خطرًا على وحدة البلاد وتعهد بمواجهتها، فيما أدان الاتحاد الأفريقي هذه الخطوة ورفض الاعتراف بها، داعيًا الدول الأعضاء لعدم دعم أي محاولة لتقسيم السودان. وأعربت الأمم المتحدة عن قلقها من أن تؤدي الخطوة إلى تعقيد المسار الدبلوماسي وترسيخ الانقسام، بينما لم تحظَ الحكومة الموازية بأي اعتراف دولي، في وقت تمسك فيه المجتمع الدولي بالحكومة المؤقتة في بورتسودان كممثل شرعي للدولة. وكان الجيش قد عزز موقفه مسبقًا بتعيين كمال إدريس رئيسًا لحكومة تصريف أعمال وتشكيل وزراء جدد لمواجهة مساعي الدعم السريع.
هل يعيد السودان تكرار نمط ليبيا واليمن؟
لقد قارن العديد من المراقبين بين ما يحدث في السودان الآن وبين تجارب دول عربية انهارت فيها السلطة المركزية إلى سلطتين أو أكثر. يشهد السودان وضعًا يذكّر بتجارب ليبيا واليمن، حيث انقسمت السلطة إلى حكومتين وجيشين، بدعم خارجي ووجود مرتزقة، وسط انهيار اقتصادي وأزمة إنسانية حادة. غير أن خصوصية السودان الجغرافية والديموغرافية تجعل أزمته أكثر خطورة، فهو يحد سبع دول ويطل على البحر الأحمر، ما يضاعف تأثير النزاع إقليميًا. كما أنّ تدفق مئات الآلاف من اللاجئين إلى تشاد وجنوب السودان ومصر ضاعف الضغوط الأمنية والاقتصادية على هذه الدول، فيما تسمح الحدود الهشّة بتسلل المقاتلين والأسلحة، مما يربط الحرب السودانية بشبكة أوسع من عدم الاستقرار في ليبيا ومنطقة الساحل. كما يشكل موقع السودان على البحر الأحمر، واحتواؤه على ميناء بورتسودان الاستراتيجي، نقطة ارتكاز في أمن الملاحة الدولية، ما يجعله ساحة تنافس بين قوى إقليمية ودولية، خاصة مع مساعي قوى دولية لإنشاء قاعدة بحرية هناك.
إلى جانب ذلك، يهدد النزاع نظام نهر النيل ومصالح مصر المائية، إذ قد تستفيد أطراف كإثيوبيا من انشغال الخرطوم لإضعاف التنسيق المصري السوداني في ملف سد النهضة. إذن، استمرار الحرب يحمل خطر تفكك الدولة إلى كيانات أصغر، مثل احتمال انفصال دارفور أو بروز نزعات انفصالية في الشرق والنيل الأزرق وجبال النوبة، ما يعيد شبح إعادة رسم الخرائط في أفريقيا. وقد حذّر الاتحاد الأفريقي من أن قبول أي واقع انفصالي في السودان سيكسر مبدأ احترام الحدود الموروثة، ويفتح الباب أمام موجة تفتيت أوسع تهدد استقرار القارة بأكملها.
الفاعلين الإقليميين والدوليين في تفتيت السودان
غنّي عن البيان أن الحرب السودانية تحولت إلى ساحة صراع مفتوح بين قوى إقليمية ودولية، لكل منها أجندتها ومصالحها الخاصة. مثلا، تواجه الإمارات اتهامات بدعم قوات الدعم السريع بالسلاح والمال وحتى بالمقاتلين، سعيًا لترسيخ نفوذها في مناجم الذهب والموانئ على البحر الأحمر. في المقابل، تدعم مصر الجيش السوداني انطلاقًا من مصالحها الأمنية والمائية، خاصة ما يتعلق بنهر النيل، بينما تشاطرها السعودية هذا الموقف وتتحفظ على الدور الإماراتي، مستضيفة مباحثات جدة ومقدمة مساعدات إنسانية. أمّا إسرائيل فتحافظ بدورها على قنوات اتصال مع البرهان وحميدتي، مائلة رسميًا نحو الجيش لضمان استمرار التطبيع، فيما يبقي جهاز استخباراتها علاقته بالدعم السريع، معتبرة السودان جزءًا من معسكر حلفائها. أما روسيا فتلعب على الطرفين عبر فاغنر التي زودت الدعم السريع بالسلاح، وعروض لمساعدة الجيش مقابل قاعدة بحرية في بورتسودان، فيما زودت تركيا الجيش بطائرات مسيّرة بالتنسيق مع القاهرة.
إلى جانب هؤلاء، ينخرط لاعبون إقليميون آخرون في المشهد. فقد دعم الجنرال خليفة حفتر في ليبيا الدعم السريع بالسلاح والوقود، مستفيدًا من علاقته القديمة بحميدتي وبرضا إماراتي، بينما تحافظ تشاد على حياد معلن مع تعاون أمني هادئ، ويُعتقد أنها تتلقى دعمًا إماراتيًا مقابل الصمت. فيما تراقب إثيوبيا الوضع خشية انفلات أمني على حدودها الغربية، وجنوب السودان يخشى على صادرات نفطه ويحاول الوساطة، فيما قد ترى إريتريا فائدة في إضعاف السودان الذي كان ينافسها في القرن الأفريقي. النتيجة أن الصراع السوداني لم يعد محصورًا بين خصمين متحاربين، بل أصبح عقدة إقليمية ودولية متشابكة المصالح، ما يجعل أي حل سياسي مرهونًا بترتيب حسابات كل هؤلاء اللاعبين قبل الوصول إلى تسوية نهائية. وهكذا، فإن وجود حكومتين متوازيتين تدّعي كل منهما الشرعية على أجزاء مختلفة من البلاد، إلى جانب انخراط مقاتلين أجانب تدعمهم قوى إقليمية ودولية، يعمّق الانقسام الجغرافي والسياسي بين شرق البلاد وغربها عمليًا.
ختامًا، تبدو فرص نجاح “الحكومة الموازية” التي أعلنها الدعم السريع شبه معدومة في ظل عزلة دولية ورفض واضح من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وأغلب دول الجوار، فضلًا عن سيطرتها المحدودة على أجزاء من دارفور وبعض المناطق الريفية في كردفان، وعجزها عن دخول المدن الرئيسية الخاضعة للجيش. كما أن سجلها الدموي ضد المدنيين، والعقوبات الأميركية على حميدتي، جعلت الاعتراف بها خطًا أحمر حتى لدى حلفاء محتملين كالإمارات وإسرائيل. ومع ذلك، قد لا يكون هدف حميدتي إقامة دولة مستقلة بقدر ما هو استخدام هذه الحكومة كورقة ضغط تفاوضية ليُعامل كسلطة أمر واقع، على غرار خطوة الجيش بتعيين حكومة مدنية في الشرق لكسب الشرعية. لكن استمرار هذا الوضع قد يرسخ الانقسام على المدى الطويل، شبيهًا بتجربة ليبيا حيث تنشط حكومتان لسنوات دون حسم. الأخطر أن الحكومة الموازية بدأت تخلق بيروقراطية وطبقة مستفيدة من بقائه، ما يصعّب تفكيكه مستقبلًا.
هذه الخارطة المتشظية تعني أن السودان بات فعليًا مقسّمًا إلى مناطق نفوذ بين طرفي الحرب، مع خطوط مواجهة جامدة تفصل بينهما. وفي تقديري، إعلان حكومة موازية من قبل الدعم السريع لن يؤدي إلا إلى ترسيخ هذا الانقسام وتحويله من أمر واقع مؤقت إلى حالة دائمة، مما يجعل إعادة توحيد البلاد أصعب، حتى لو توقفت الحرب. الأخطر من جميع ما سبق، أنّ مثل هذه الخطوات تزيد من احتمالية “التقسيم بحكم الأمر الواقع” للسودان، حيث ستشجّع هذه الازدواجية في السلطة ظهور أطرافًا مسلحة جديدة؛ إذ يدفع وجود حكومتين متنافستين جماعات متمردة أخرى إلى حمل السلاح طمعًا في نيل حصة أو منصب في أي من الإدارتين، مما يُكرّس حالة الفوضى ويُطيل أمد الحرب ومعاناة المدنيين، وبالتالي ما سيفضي إلى عقودٍ أخرى من صراع متجمد لكن دون نهاية في الأفق. وجميع ذلك يمكن أن ينته إن ضغط المجتمع الدولي- إعلاميًا سياسيًا وقانونيًا- على الدول الإقليمية التي تغذي معاناة السودانيين.




