مجتمع

جيل النقرة الواحدة: حين تُختزل المعرفة وتُهدد الأصالة

أغسطس 4, 2025

جيل النقرة الواحدة: حين تُختزل المعرفة وتُهدد الأصالة

في مساءٍ عادي، سألت طفلي، الذي لم يتجاوز السابعة من عمره، سؤالاً بسيطاً يتعلّق بدرسٍ تلقّاه في المدرسة. أجابني بعفوية طفولية تتناسب مع عمره ومحتوى درسه. لكني قررت أن أُحمّله تحدّياً أكبر، فبدأت أطرح عليه أسئلة أوسع، متعمّداً أن أفتح له آفاقاً جديدة، توقف لحظة، ثم قال ببساطة: “بابا، اسأل ChatGPT.”

 

ربما لا يبدو في هذا الردّ ما يدعو للقلق في ظاهره، بل على العكس، قد يكون مدعاة للفخر أن ينشأ الطفل في بيئة منفتحة على التكنولوجيا، قادرة على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بسلاسة. فمن الطبيعي أن يتشرّب هذا الجيل هذه الثقافة الجديدة، ويستخدمها كما نستخدم نحن الورقة والقلم.

لكن، وكأبٍ مهووس بالتكنولوجيا منذ صغري ومهتم بمستقبل أبنائه، لا يسعني إلا أن أتساءل: هل ستكون هذه الأدوات الحديثة معيناً لولدي، أم عائقاً في طريق تعلمه ونموه؟ وهل سيظل عقله قادراً على الاستيعاب والتحليل أم أنه سيكتفي بتلقي الأجوبة الجاهزة من “مساعد ذكي” لا يُتعبه التفكير؟ بدأت أستعرض هذه الأسئلة في ذهني، وأتتبع أثر ما يمكن تسميته بـ “مخاطر الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري”.

 

 

من محرك البحث إلى الإجابة الواحدة

 

في بدايات الألفية، مع انطلاق محرك البحث غوغل كنا نعيش نشوة الاكتشاف. تكتب سؤالاً بسيطاً، فتنهال عليك آلاف الصفحات والمصادر والمقالات. تقرأ، تقارن، تُحلل، وتصل في النهاية إلى رأيٍ تكوّنه بنفسك، لا يُملَى عليك، ثم جاءت ويكيبيديا، فصارت صفحة واحدة تحتوي على محتوى غني ومتعدد الزوايا، تقدم أحياناً وجهات نظر متضاربة، وتضع القارئ في موقع من يبني وعيه خطوة خطوة. لكن اليوم، تغيّر كل شيء.


الطالب في المدرسة أو الجامعة لم يعد بحاجة إلى لغوص في شبكة الإنترنت. يكفي أن يطلب من “أليكسا” أو “سيري” أو “شات جي بي تي” إجابة، ليحصل على ردّ مختصر وواثق وغالباً بلا سياق. لا تعددية في المصادر، لا تعارض في الآراء، لا وقت يُمنح للفهم، ولا جهد يُبذل في الوصول.

 

 

عندما اختُزلت المعرفة

 

أتذكر جيداً حين كنت أعدّ مشروع تخرجي في جامعة سالفورد في بريطانيا عام 2010، قضيت أياماً في البحث بين الكتب والمراجع والمقالات العلمية، قرأت بتمعّن عدة كتب، واطلعت على أطروحات لطلبة الماجستير والدكتوراه، قبل أن أقرر أن أبني عملي على دراسة سابقة أعدّتها طالبة تخرجت قبلي بعام. كانت العملية شاقة، لكنها مليئة بالاكتشاف، والتراكم، وبناء الفكرة على أسس راسخة.

 

أما اليوم، فقد قررت أن أكرر نفس التجربة  لكن بأسلوب “جيل النقرة الواحدة”، بحثت عبر ChatGPT، ووكلت برنامجاً مساعداً مثل Manus ليقترح عليّ موضوعاً مشابهاً، وفي أقل من 10 دقائق، حصلت على إجابة وافية، وخطة عمل واضحة.

 

هل هذا مريح؟ نعم. هل هو خطير؟ أكثر مما نظن.

الخطورة تكمن في جانبين:

  1.   اختزال المعرفة: لم أحتَك بمئات المعلومات التي كانت ستثري فكرتي. كل ما حصلت عليه هو مسار واحد مستقيم. لدي سؤال، وأبحث عن جواب. أما المعلومات الجانبية، والتفرعات، والفُتات المعرفي الذي يصنع السياق فقد اختفى.
  2.   غياب التراكم: في الماضي، كانت كل معلومة تقودك إلى أخرى. تبحث عن فكرة حديثة، فتعود بك المصادر إلى الجذور، تبحث عن فكرة قديمة، فتقودك إلى أفق جديد لم تكن تتوقعه.

 

 

الذاكرة.. خارج الجسد

 

اليوم، لم نعد نحتاج إلى حفظ أي شيء. فكل شيء مخزّن على السحابة، أو في الهاتف، أو على شاشة قابلة للبحث.
اعتمدنا على “ذاكرة خارجية”، وأهملنا قدرات عقولنا. نعم، صارت حياتنا أسهل، لكننا لم نعد نُدرب عقولنا على التذكّر، ولا على التحليل، ولا حتى على الكتابة.

 

 

 

الدراسات تثبت ما نقول

 

في دراسة حديثة نُشرت عبر معهد MIT، استخدم الباحثون أجهزة EEG لمراقبة نشاط الدماغ لدى 54 طالباً على مدى 4 أشهر، النتائج كانت لافتة: الطلاب الذين استخدموا تشات جي بي تي بانتظام في مهام الكتابة أظهروا انخفاضاً ملحوظاً في نشاط الدماغ، والاحتفاظ بالمعلومة، والتفكير النقدي، مقارنةً بزملائهم الذين استخدموا غوغل أو لم يستخدموا أدوات ذكية على الإطلاق.

 

حملت الدراسة عنوان: “التكلفة المعرفية لاستخدام نماذج اللغة الكبيرة (LLMs)” وكشفت أن مستخدمي الذكاء الاصطناعي لم يقدّموا فقط أعمالاً أقل أصالة، بل لم يتمكنوا من تذكّر ما كتبوه بعد وقت قصير.

 

ورغم ما يوفره تشات جي بي تي من سرعة وسهولة، يأتي ذلك بثمن. أطلق الباحثون على هذه الظاهرة اسم “الخمول العقلي”، محذّرين أيضاً من غرف الصدى التي يخلقها الذكاء الاصطناعي، إذ يتلقى المستخدم إجابات جاهزة من الخوارزميات، ويقبلها دون مساءلة أو تفكير نقدي، والأدهى أن حتى بعد الانتقال إلى مهام لا علاقة لها بالذكاء الاصطناعي، ظل نشاط الدماغ منخفضاً لدى هؤلاء المستخدمين.


في المقابل، أظهر أولئك الذين بدؤوا بدون أي مساعدة ذكية نشاطاً عقلياً مرتفعاً حين طُلب منهم لاحقاً استخدام أدوات الذكاء، مما يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون أداة داعمة، لا بديلاً للتفكير البشري.

 

 

عندما يُقتل الإبداع على يد الأدوات الذكية

 

سأعترف لكم بشيء، وأنا أكتب هذا المقال، شعرت بالإرهاق أثناء الصياغة. كتبت جملاً متفرّقة، غير منسجمة، فما كان مني إلا أن نسختها إلى ChatGPT وطلبت منه أن يعيد صياغتها، وقد فعل، بكفاءة عالية.

 

لكنني لاحظت شيئاً: مع كل استخدام، يقل اعتمادي على مخزوني اللغوي، وتضعف شرارتي الإبداعية، بدأت أعتمد على الأداة، بدلاً من أن أكون أنا الكاتب. فهل ما أكتبه اليوم (وهو من بنات أفكاري) يعتبر مقالي أم مقال الذكاء الاصطناعي؟

 

 

نسخ مكررة من البشر

 

قبل أيام، أخبرني صديقي أحمد، الذي يعمل في قسم الموارد البشرية، بأمر لافت، قال إن عدداً كبيراً من السير الذاتية التي تصله هذه الأيام تبدو متشابهة إلى درجة مربكة، اللغة واحدة، العبارات متكررة، الأسلوب بلا طابع شخصي.

 

في الماضي، كانت السيرة الذاتية تكشف عن شخصية صاحبها مفرداته، تنسيقه، طريقته في الحديث عن نفسه، أما اليوم، فالكثيرون يسلّمون أمرهم لتطبيق أو ذكاء اصطناعي يكتب عنهم، بدلاً منهم. النتيجة؟ مرشحون بلا هوية، ونسخ متعددة من نفس النموذج البشري مفرغون من الطابع الشخصي.

 

 

هل وصلنا إلى نقطة اللاعودة؟ ربما لا، لكن من المؤكد أننا بحاجة إلى وقفة، جيل النقرة الواحدة لا تنقصه الأدوات، بل تنقصه المهارات التي تُنتج الوعي، وتصنع الإنسان المفكّر.

شارك