آراء
يروى في التاريخ أن عمرو بن العاص سُئل ذات يوم عن الروم، بعد معارك دامية واحتكاكات مسلّحة ومفاوضات سياسية عسيرة خَبِر فيها القوم عن قرب، مقاتلين ودبلوماسيين، حكّامًا ومحكومين. فكان جوابه مفاجئًا لمن ظنّ أن الكراهية يمكن أن تطمس الإنصاف، أو أن الحرب تحجب البصيرة ، فقال:
“إن فيهم لخصالًا أربعًا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك.”
ففي واحدة من أنضج الشهادات التاريخية على رقي التفكير السياسي في صدر الإسلام، نحتاج الى أن نقف على تفسير مبسط لكل النقاط التي ذكرها عمرو بن العاص و نقاربها بواقعنا السياسي العربي .
فحين قال إنهم “أحلم الناس عند فتنة”، كان يشير إلى نضج سياسي عام و مشترك يعصم أهل الروم من الانفجار المجتمعي عند الأزمات، وهو ما نستطيع أن نُسميه اليوم بـمناعة النظام ، أو قدرة الدولة على امتصاص الصدمات دون انهيار داخلي .
وأما قوله “أسرعهم إفاقة بعد مصيبة”، فهي تشير إلى صورة دقيقة لما يُعرف الآن في علم الحكم والإدارة العامة بـ”التعافي المؤسسي”، أي رجوع الدولة أو النظام أو المؤسسة بسرعة إلى توازنها بعد الكوارث، وهي سمة أصبحنا نفتقدها في أنظمتنا العربية التي تنهار أمام الأزمات بأنواعها وتحتاج سنوات لتصحيح المسار إن صححته أصلًا.
وحين وصفهم عمرو بأنهم “أوشكهم كرة بعد فرة”، فقد لفت النظر إلى ما نسميه اليوم في علم الادارة بـ “المرونة الاستراتيجية”، أي القدرة على إعادة التموضع والتغيير التكتيكي والانطلاق بعد الإخفاق ، بينما نحن في عالمنا العربي كثيرًا ما تغرق أنظمتنا في تكرار الفشل مع معرفة نتيجته مسبقاَ لأن الاعتماد ليس على تعيين الكفاءات إنما من يجدون فيه ولاء مطلقاَ فقط .
ثم جاءت عبارته “خيرهم لمسكين ويتيم وضعيف” ، تدل على وجود شبكة حماية اجتماعية متينة، وهي عدالة اجتماعية تجعل من الفقراء جزءًا من البناء لا عبئًا على النظام، في حين تتحول معاناتهم عندنا إلى مادة للاستهلاك الإعلامي لا إلى سياسات إنصاف ، ونجد هذا واضحاَ في سياسات طلبات اللجوء السياسي لكثير من المظلومين في الديار العربية الذين لجأوا الى ديار الروم المعاصرين و توفير الحماية لهم .
وأخيرًا، حين قال عمرو إنهم : “أمنعهم من ظلم الملوك”، كان يُشير بوضوح إلى وجود آليات متجذرة لمحاسبة السلطة السياسية ، كصياغة الدستور وحمايته من تغول السلطة وحماية القانون وتفعيل الرأي العام والمراقبة الشعبية ، وهي أدوات غائبة أو مُعطّلة في أنظمة الحكم العربي، حيث قلّما يُحاسَب الظالم، وندر أن يُنصف المظلوم.
لذلك فإني أرى أن مقولة عمرو بن العاص ليست وصفًا للروم بقدر ما هي دعوة ضمنية للاجيال العربية والاسلامية لبناء أمة تملك وتتضمن هذه الخصال الخمسة، لأنها ببساطة صفات قادرة على تحصين المجتمعات، وقادرة على تجديد مشروعها الحضاري، وتساعدها لاستعادة مكانتها في عالمٍ سياسي لا يرحم الضعفاء ولا يجامل المتخاذلين.