تأملات
لا أعود للتفتيش في رأسي هذه المرة؛ التفاعل بأي صورة مع هذا الجنون هو شراكة فيه، وترسيخ لمراده منا: البحث عن الجريمة التي ارتكبناها( بالتأكيد نحن مذنبون، علينا فقط اكتشاف الذنب الذي أتى بنا إلى هنا هذه المرة)
رحلة مكرورة مملة وعبثية، ولولا أنها تهدد حريتنا وسلامنا في كل مرة، لظلت مجرد مسرحية هزليّة، يتساءل المحامون والأصدقاء عن السبب، ولا نجد احتمالًا نرجحه عن غيره، كما نفعل مع كل استدعاء، فأنا في إجازة طارئة منذ ستة أسابيع قبل موعد الاستدعاء، وتوقفت تمامًا بأمر الأطباء عن كتابة المقالات ومتابعة الأخبار والتفاعل معها، وعن النشاط بكل صوره، كما غادرتُ المدينة غير آسفٍ عليها، إلى أبعد شاطئ استطعت الوصول إليه.
لا مبرر هذه المرة، ولو كان واهنًا (وهل كان ثمّة مبرر في المرات السابقة؟) إلا احتمال أن استمرار الاستدعاء والتحقيق كروتين دوري يهدد حريتي، يضعونه قسرًا أمام ناظري لأحسب حسابه قبل إبداء رأي أو تعليق، ولو كان ساخرًا (مثل غلاف رواية يوسا: أحمق وميت وابن حرام وغير مرئي)
أو الاستغلال الوقح للتراجع الطبي المفروض عليّ لإجباري على الانسحاب التام الأخير، وكلاهما رهان أحمق، أيًا كان المراهن عليه؛ فلو تأنّى أحدهم وقرأ ورقةً واحدةً من آلاف المكدَّسات في أدراج أجهزتهم بخصوصي، لأدرك أنني أقفز للأمام عند استشعار أي خطر، وأعتصم بالعلانية ابتداءً وفي لحظات التهديد خصوصًا، قد لا تعصمني هذه أو تلك من الخطوب، لكنها – بقدر ما تصلح للدفاع عن حرية الفعل – تعصمني من نفسي؛ من الزلل خوفًا أو طمعًا، أو حتى تكاسلاً عن خوض المعركة تجنبًا لتبعاتها.
لو راجع أحدهم ما دأبت عليه في العامين اللذين قضيتهما خارج المعتقل حتى الآن (وقد أخبرني المحقق أن النيابة تصفحت حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي ووجدت مني دأبًا على مهاجمة الدولة والتحريض على مؤسساتها)، ولو فعل بعين الناظر لا المتَّهِم، لأدرك أني لا أحب التبعات التي جرّبتها بالقسر: سجنًا وتعذيبًا واعتداءً ومنعًا وتنكيلًا وتشويهًا وتلفيقًا… لكني لم أتجنَّب أي خطوة على طريقي نظرًا لما سيتبعها، ولعلّي أرى كل شيء هينًا مقابل أن أعتقد وأقول وأعيش بحريّة وكرامة، بما في ذلك الموت/القتل.
في كل استدعاء، أشعر أنني أمشي في ممرات «المحاكمة» التي لم تكتب فصولها بعد، لا أعرف التهمة، ولا من وجّهها، ولا متى صدر القرار، فقط أُستدعى، فأذهب، وأنتظر، ثم أعود: محاطًا بالصمت والأسئلة، يرافقهم غضبٌ لا ينتهي، واستنزاف نفسي وذهنيّ وماديّ يبدو أنه سيستمرّ إلى نهاية السلطة.
وفي عالمٍ أرادوه بلا صوت ولا ذاكرة ولا ضمير، أصبح مجرّد الاحتفاظ بسؤالٍ جريمة غير مغفورة، كأن مجرد القدرة على الفهم صارت موضع اشتباه، ستراقب وتُسأل وتستدعى وتسجن وتعذّب وتقتل، لا لأنّك خطر بل لأنّك ما زلت تفكّر.
يصف ميشيل فوكو السلطة الحديثة كسلطة لا تكتفي بمراقبة الأجساد، بل تتسلل إلى الأنفاس، إلى النوايا، إلى اليومي المألوف. هي سلطة لا تعاقب على الجُرم فحسب، بل على احتماله، على ما يمكن أن يُقال، أو يُفكَّر، أو يُرسم داخل الوعي، هي “هندسة” كما يسميها، تنظر إليك كمشروع خطأ حتى قبل أن تخطئ، تسألك عن صحتك، ثم عن وقتك، ثم عن تدوينتك، ثم عن نيتك، ثم تدعوك لأن تُقِرّ بما لم تفعل، في هذا النظام، ليس المهم ما قلته فعلاً، بل ما كان من الممكن أن تقوله.
هي سلطة تُدخلك في عملية تأديب ذاتي، تراقبك حتى تتعلم أن تراقب نفسك، حتى تصير أنت سجانك، وكما في النظام البانوبتيكي الذي تحدّث عنه فوكو، يكفي أن تشعر بأنك مراقب كي تغيّر سلوكك، كي تكتب بحذر، كي تصمت كي “لا تثير الشك”، لكنها لا تكتفي بذلك هنا، بل تطلب أكثر: تطلب أن تصدّق بأنك مذنب، أن تستبطن ذنبًا لم ترتكبه، أن تمضي في جلد ذاتيّ باسم “الأمن” أو “المصلحة العامة”.
ستظنّ السلطة أنّ الأمر انتهى هنا، أنّ الدائرة انغلقت ولم يعد ثمّة مفر، لكنّ نفيَ المرادِ منها بعد الوعي به قد يكون أوّل المقاومة: لا تتجاهل المراقبة لكن احذر تأثيرها، لا تغيّر سلوكك لا انسحابًا ولا انتحارًا، لا تكن حذِرًا إلا بقدر حاجتك المجرّدة للحذر، افعل ما وودتَ فعله بعيدًا عمّا سيخلفه من أثر، ببساطة ومباشرة-آمل ألا تكون مخلّة: كن أنتَ، ولتذهب السلطة بأدواتها للجحيم.
وفي رحلة تبدو جرامشية معكوسة، أجد نفسي في نظام لا يكتفي بالهيمنة، بل يطلب استسلامًا رمزيًا: اعترافًا داخليًّا يسبق أي انكسار خارجي، لقد قرأ جرامشي كيف تصنع النخبة هيمنة فكرية بلا عنف؛ وهنا يطوّقونني بالقهر الرمزي والتفتيش المتكرر وأجدني كأيّ مستعمَر، لا أعاقب فقط حين أثور، بل حين أتذكّر/أفكّر، إنهم يذكرونني كل مرة أن عليّ نسيان جذوري؛ أن عليّ نسيان حقي في الكلمة وحق الآخر في سماعها، أيًّا كانت تلك الكلمة، ولو كانت خطئًا، ولو كانت سُبابًا، ولو كانت مجرد إشارات صوتية لا تعني شيئًا.
وعلى السلطة أن تقبل – ولو كرهاً – بوجود قلّة ناشزة. هذه القلّة لن تغيّر الواقع، ولن تشعل ثورة؛ فالتغيير والثورة تقوم السلطة مشكورة بتوفير تراكمهما، وسيحدثان لا محالة، في وجود هذه القلّة أو غيابها.
وهكذا، حتى وأنا في إجازة صحية، أتجنّب المشهد ولو متابعةًبأمر الأطبّاء، لا يكفّون عن التلويح بالمشهد؛ يريدونني جزءًا منه، ولو صامتًا.
ولأني رفضت الصمت، وما زلت أصرّ على أن “الكلمة فعل”، تصبح كلّ كلمةٍ أكتبها تقريرًا أمنيًّا، كل قصيدة ملفًّا، كل رأي احتمالًا جنائيًّا.
ولأني أعرف هذا، ولأني لستُ بطلًا ولا نبيًّا، بل فقط شخص يحاول أن يعيش بضميرٍ لا يُذلّ، أكتب، وأذهب للتحقيق، ثم أكتب، ثم أذهب.
دون بطولة أو جنون، فقط لأن البديل الوحيد هو الموت في صمت، وأنا – ببساطة – لا أريد أن أموت بصمت.