سياسة
يُحكى أنّ بحّارًا إيطاليًّا اسمه “أميريجو فيرشبوسي” بعث برسالةٍ لمموله التاجرٌ الفلورنسيّ “لورينتسو دي ميديسي” الذي أرسله في رحلته بحثًا عن “بلاد جديدة”أو ربّما “موارد جديدة”،قال له فيها: “وجدتُ أرضًا لم يطأها أحدٌ من أسلافنا، إنّ رحلتي تثبت خطأ الظنّ بأنّه لا توجد أي أرض تحت خطّ الاستواء وأنّه بحرٌ لا نهاية له”، ويُقدّر لعالمَي خرائط ألمانيين أن يقعا على هذه الرسالة التي انتشرت حول العالم في كتاب، ليقررا تسمية تلك البلاد التي على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي باسم هذا الرجل”أميريجو” ظنًّا منهما أنّه” مستكشف” العالم الجديد، ثم ينسخا من خريطتهما الجديدة مئات النسخ ويعرضا واحدةً منها في معرض فرانكفورت للكتاب وينتشر الإسم حول العالم :”أميركا”. ورغم محاولاتهما المتأخرة لتصحيح الإسم والمعلومة، إلا أنّ الإسم قد ذاع وانتشر، وبقيَ حتى اللحظة شاهدًا على ما يمكن أن يحدث مصادفةً أو خطأً، على يد “كلمة”.
ليس هذا مجالَ حديثٍ عن تاريخ أمريكا، التي “عثر عليها كولومبوس، فعثرت هيَ علينا” – على قول درويش- ومازالت، إنّما انطلاقًا مما أحدثه المحتلّ الأوروبيّ في هذه القارة القديمة (تمامًا كما فعل في استراليا ونيوزيلاندا وأفريقيا مثلاً) من جرائم لفظيّة، رسّخت وجوده ونفت وجود أصحاب هذه الأرض وتاريخهم، وما زالت.
“الإبادة” الجارية للأهل في فلسطين، نموذجٌ حيٌ على الكلمة كميدان للصراع، يمكن أن تُسجن أو تُطرد أو حتى تُقتل عقابًا على عدم الرضوخ لما أقرّه المحتلّ من تعريفات، أو حتى محاولتك استخدام ما سبق وسطا عليه من لفظاتٍ حصر استخدامها على واقعةٍ تخصّه هو في لحظةٍ تاريخيّة بعينها.
يمكنك وأنت تقلّب المحطّات التلفزيونيّة التقاط فوارق لفظيّة تبدو عابرة، هذه تقول “شهيد” وتلك “قتيل”، هذه “مقاومة” وتلك “إرهاب”، إلى آخر خطّ المتقابلات؛ كلٌّ يعبّر باللفظة عن انحيازه أو حياده.
بين المقاومة والإرهاب، السجين والمعتقل/الأسير، الشهيد والقتيل، ليست مجرّد فوارق لفظيّة يحددها منطق الحروف ورسمها، إنّما هي مجرّد أعراضٍ لما وراءها من دلالات ومعانٍ وتاريخ.
جرت عادةُ الـ”مستعمر” في كلّ زمنٍ على خوضِ صراع على اللغة يوازي صراعات الميدان العسكريّة والسياسيّة، إدراكًا منه لأهميّة الكلمة في ترسيخ وجوده وتأصيل الهزيمة التي يرغب في إلحاقها بالعدو (حتى لفظة المستعمر تلك من تراثه ونتاجات انتصاره، مصدرها عمّر، رغم الخراب الذي ألحقوه بكلّ بلدٍ احتلّوها).
وامتدادًا لما أقصدُ في ذات السياق: على موجات “الراديو” كان مؤتمرٌ صحفيّ لأمين عام الحوار الوطني، سألته صحفيّة عن “المعتقلين” فقاطعها: ما اسمهمش معتقلين على فكرة، فيه محبوسين احتياطيًّا وفيه محكومين، وهو المضمون ذاته الذي صرّح به السيسي غير مرّة في لقاءات تلفزيونية أو مؤتمرات صحفيّة مع رؤساء غربيّين، كما تردّده/ترسّخه أبواق السلطة في كلّ حين: إنكارًا للتهمة حين يعتقلون الآلاف، واحتفالاً بالإنجاز حين يُخرجون واحدًا أو اثنين.
وهو ذات النهج الذي دفعت به السلطة منذ لحظتها الأولى؛ مزيجٌ من نفي الواقع بإسقاط المصطلحات الدالّة عليه تمامًا وإخفائها قسرًا (وإجبار المعنيين بها على استخدام مصطلحات مغايرة)، أو استخدام مصطلحات محايدة لا تُنكر الواقع لكنّها تفصله عن مسبّباته وتجرّده من دلالاته؛ فيصبح المعتقل –ذلك المختطف من حياته دون جريرة أو بتهم ملفّقة وبلا محاكمة عادلة أو بلا محاكمة أصلاً- مجرّد “سجين”.
والأنكى من انتهاج السلطة -المجرم الأصيل- لهذا النهج، هو استجابة “معارضة ما” لشروطها تخلّيًا عن قاموس الحقيقة سعيًا لإرضائها أو تجنّبًا لسخطها حتى لا يطالهم ما طال غيرهم، امتدادًا بدهيًّا لمسار التخلّي والرضوخ الذي يصمنا؛ تمامًا كما يليقُ بهذه المرحلة العَفِنة من تاريخ وطننا المسكين.