Blog
يطلُّ صوتك فجأة عليّ تحت الغارات، يبدو الوقت غير مناسبٍ أبدًا لأعيد اكتشاف ألحانك وكلماتك وقصصك، وأسمع ثوريَّتك، ومزاجك السَّيءِّ كُلّما ذكرت إسرائيل، وسكينتك المطلقة وأنت تقول (لا يصحُّ إلا الصحيح، وفلسطين ستتحرَّر).
تُشبهنا بطريقةٍ ما
ربما بلحظتك الأخيرة حين انخفضت رغبتك في الحصول على العلاج، أعرف تلك اللحظة تمامًا، فلقد مررتُ بأوقاتٍ كثيرة كتلك وقد انخفضت رغبتي بالحياة، حتى إن صديقتي تسألني يوميًّا.
(كيف نحن نعيش حتى الآن؟) لا ماء جيِّد ولا طعام ولا دواء ولا بيئة جيِّدة ولا بيت ولا شيء، اخترتُ أن أجيبها هذه المرة باقتباسٍ من كلماتك (تعي نقعد بالفيّ .. مش لحدا هالفيّ)
رغم أنّ الاحتلال سرق الكثير من مساحات فيئنا، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يسرقها كلَّها، وفعلًا (مش لحدا هالفيّ)
لا زلت أسمع ضحكتها وهي تقول (فَيّ الرُّكام؟).
معلش حتى ولو فَيّ الرُّكام..
تُشبهنا بطريقةٍ ما
وأنت تحاول ألَّا تشبه غيرك، وألَّا تركب الموجة، وتستطيع ذلك بسهولة شديدة، لكنَّك كنت دائمًا محافظًا على نظافة أصابعك التي تطرق البيانو، تلك الأصابع التي لحَّنت لسميح القاسم وشجبت إسرائيل في كلِّ نوتةٍ موسيقيَّة..
نحنُ في زمنٍ قذر جدًّا، أن تعبرَ فيه وتظلّ أصابعك نظيفة، هذا أمرٌ عظيم.
الموت ليس مشكلة، الموت هو إعادة اكتشاف، قد يكون هذا الأمر غريبًا للآخرين، لكنّها حقيقة أحسستُها هنا تحت الإبادة، كلُّ صورة شهيدٍ هو اكتشافٌ جديد، تجعلك تبحث عنه، تسأل من هو؟ ما هي آخر لحظاته؟ ما هي آخر كلماته؟ ما أكثر فيديو ضحك فيه؟ لقد علَّمتني الحرب أن أكتشف الضحايا، أن أعرفهم من جديد، ألَّا يتحوّلوا إلى لحظةٍ منسيَّة، كلَّما سألتُ عنهم كلَّما أصبحت ذكراهم حيَّة، ليس سهلًا أن تظلّ وفيًّا طيلةَ الوقت، ولكن أيضًا ليس هنالك أيّ مبررٍ لتتحوَّل إلى خائن.
تُشبهنا بطريقةٍ ما.
لأنّك تكره الخيانة، ذلك الإحساس الذي جعلك تكتب يومًا لحبيبتك (عندي ثقةٌ فيك)، لكنَّنا هنا نختلف عنك قليلًا، لم يعد لدينا ثقةٌ بأحد، لقد أثقلت كاهلنا الخيانات (الداخليَّة والخارجيَّة)، حتى أدركتُ وأنا أستمتع بسماعها بصوت فيروز (أنّها أغنية صادقة جدًّا) لكنَّها لا تشبهنا.
تصبح الثقة رهانًا خاسرًا حين تكتشف أنّك يوسف الذي ألقوه في الجبِّ وأغلقوا عليه البئر للأبد.
لكن حتى ذلك الإحساس لا يمنعني أن أسمع هذا المقطع الجميل حتّى وإن أجرى في عيوني الدموع لأتذكَّر دائمًا أنّ المرء يحتاج إلى شخصٍ يقول له عندي ثقةٌ فيك بطمأنينة، دون أن يحتاج إلى لحظةٍ ليفكِّر بما قاله، ثقةٌ لا تحتاج للتفكير، تنتهي فيها الجمل والكلمات..
تشبهنا بطريقةٍ ما
وأنت تحاول طيلة الوقت أن تُشبهك، لم تقلب المرآة لكي لا تراك، ولم ترتدِ قناعًا لتكون غيرك، هكذا غزَّة طيلة الوقت، غزَّة التي من الصعب أن تتحوَّل إلى كوبليه أغنية أو مقطعٍ شعريٍّ، من الصعب أن تكون فيلمًا أو مسرحية، من الصعب أن تصبح لوحة، إنّها صعبة جدًّا لأنَّك مهما اجتهدت في مقاربتها ستكون مقاربتك ناقصة، مهما حاولتَ فإنّ دمها سيتسرب في لوحتك، صوتك، قصيدتك، موسيقاك، وسيفسد إتمامها..
الآن تنتهي كلُّ أوجاعك زياد رحباني .. لكن من سينهي أوجاع موسيقاك العالية في روحنا؟