آراء
وطنٌ عربيٌّ نبيلٌ، أنظمةٌ تعمل لشعوبها دون وساطةٍ ولا سمسمرة، ولا خيانةٍ ولا مسخرة، وقواتٌ مقاتلة شريفة تعرف عدوَّها الحقيقيّ، وجيوشٌ تصون أمنها دون اعتمادٍ على غريب، وبلادٌ تحمي نفسها دون قواعد مستورَدة، وعلاقاتٌ مستحيلة مع “إسرائيل” كضربٍ من ضروب الخيال، ورجالٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمَرون، وشعوبٌ تملك الحقَّ في أن تذود عن الحقِّ بأرواحها وأبدانها دون أن تُودَعَ السجون أو تُسوَّى بالأرض أو تمحق ملامحها، ووحدةٌ فعليَّة في الميدان لا على يوتيوب بأغنية “الحلم العربيِّ”، ومعابر لا تحتاج إلى تصاريح عبور، ورمالٌ لا تحتاج إلى تنسيقٍ لتجاوزها نحو الطرف الآخر؛ لماذا مع كل تلك البديهيَّات ستحتاج المقاومة إلى حمل سلاحها؟
الحقيقة أنَّ العدوَّ حينها سيكون في طور التآكل، يقتات على نفسه، يستهلك ما تبقَّى منه، يتقلَّص في طريقه للأفول؛ ثمَّةَ جيوشٌ تقوم بدورها، وأنظمةٌ لا تخون شعوبها معه على أسرة التطبيع والغرام، وسلطاتٌ لا تمارس معه هواية التجويع والدياثة، وبلادٌ لا تفتح له حدودها على مصاريعها، بينما تحاصر إخوتها على مصارينهم، وجسورٌ بريَّة لا تمتد إليه مدد مدد، بلا إحصاء ولا عدد.. كلُّ ذلك كان كفيلًا بجعل الطريق إلى الأراضي المحتلَّة مقطوعةً دون واردٍ ولا صادر، كطفيليٍّ منبوذ تتساقط خلاياه حتى يموت ملفوظًا وحيدًا غريبًا، تتقيَّأه الحدود وتدفنه ركلات الجيران.
لماذا كان على غزَّة أن تسن رماحها مع وضعٍ كهذا؟ لماذا سيكون عليها أن تقتحم الباب لتقطع الطريق على مشاريع تطبيع قريبة، وأن تُحرِّر الأسرى عنوةً بأسرى آخرين، ما دامت الأنظمة تقوم حقًا بدورها، والبلاد “حرَّة” بطولها وعرضها، ولا تتاجر بعرضها، لماذا كانت ستغامر لو كانت خطة السُّلطة الفلسطينيَّة ناجحة في الحفاظ على الأرض، ويا ألف أهلًا بأيِّ طريقٍ ستحرِّر الأرض وتحفظ ما تبقَّى منها من دون مئة ألف شهيد ومليوني مُجوَّع، وإن كانت طريقة أوسلو تستطيع أن تبقي على فلسطين دون أن تُضيِّع 77٪ منها، وإن كانت ستُحرِّر عشرة آلاف أسيرٍ فلسطينيٍّ، ستسألني وهل حافظت المقاومة على الـ1.5٪ من أرض فلسطين بما فعلت؟ سيكون من حقِّي الردُّ على سؤالك بسؤال آخر: وهل ضمن الخونةُ الأرض بما وقَّعوا عليه وتنازلوا عنه طيلة هذه العقود؟ وهل على الحرِّ أن يُحاسَب على خيانة الذين باعوه في أوَّل الطوشة؟ لا أعرف رجلًا من حولي في الحقيقة سيفكِّر كثيرًا قبل أن يثأر لعرض أمه، ثكلت الخونةَ أمهاتُهم.
لماذا ستبقي المقاومة على سلاحها، ما دام هناك جيشٌ فلسطينيٌّ حقيقيٌّ، وليكن تعداده حتى، ستين ألف مقاتل لا أكثر، تمامًا كعدد جنود السلطة الحاليِّين، يحملون السلاح بعزٍّ، ويدافعون تحت ظلِّه في شرف، يناطحون المحتلَّ العداء بعداء، يتعاملون مع المستعمر بندِّيَّة صاحب الأرض، يُقسِمون على محق دويلته المزعومة، وتبديد وهمه المتعاظم، ويتوعَّدونه بتغيير الوضع بالكامل، بدلًا من ركوعهم يُغيِّرون له البناشر، ويكادون يُغيِّرون له ملابسه الداخليَّة، كلَّما شعر بحكةٍ في ظهره، أو حُرقةٍ أسفله، وما أسفلهم، وما أسفله؟!
لماذا ستصرُّ المقاومة على حمل سلاحها لو كانت بلاد الثراء والغنى والنفوذ تستطيع أن تضغط على المستعمر الوكيل وأبيه الدخيل بقطع أدبارهم، بدلًا من سكب “الخيرات” على أدمغتهم صبًّا، وحملهم فوق الرؤوس كأنَّ الله لم يخلق قبلهم ولا بعدهم أحدًا، ولو كانت تلك المباني الشاهقة في عواصم العاج والزجاج لا يسكنها سفير إسرائيليّ، ووزراء نازيُّون، ويتناوب عليها المستوطنون، كأنَّما تحوَّلت وظيفة ذلك العربيّ ذي الجلباب الأبيض إلى هامان، يبني لإلهه الإسرائيليِّ صرحًا لعلَّه يبلغ الأسباب، من فوق ناطحات السحاب؟!
لماذا كانت ستحمل المقاومة سلاحها، إن لم تكن “حائط الصدِّ الوحيد” عن أمَّةٍ كاملة؟ لو كانت تضمن أنَّ التالي لن تكون دمشق وعَمّان والقاهرة، لو كانت المسألة معركةً واحدة وتنتهي، ومطمعًا واحدًا وينقضي، ونزوةً عابرة وتذهب، لو كانت تعلم يقينًا أنَّ هذا العدوَّ عينه قاصرة ويده قصيرة، يريد أن يتربَّع فوق أطلال قرى وأشلاء أجداد ثُمَّ يُقبِّل ظهر كفه وباطنه، ثم ينام كأغنى رجل في العالم؟!
السؤال ليس لماذا كانت ستحمل المقاومة سلاحها، وإنَّما لماذا كان سيبدو حمل المقاومة سلاحها أمرًا مستغربًا وفعلًا لافتًا للنظر، لو حمل كل مواطن سلاحه، وكان الجميع مقاومين، لماذا سيكون “حمل السلاح” موضوعًا قابلًا للنقاش، وورقة مساومة ومفاوضة، وبيانًا جماعيًّا يتحدث بلسانٍ عبريٍّ مشين؟!
الحقيقة أنَّ الحالة (الخياليَّة) الوحيدة التي قد تلقي فيها المقاومة سلاحها (فرضًا جدلًا)، هو حين تأمن أنَّ عدوَّها يقاتلها وحده، لا أنَّها هي من تقاتل وحدها، بينما العدوُّ هم أولئك كلُّهم مجتمعين!