سياسة
أوَّل ما يتبادر إلى الأذهان عند ذكر كلمة “النَّصب” هو الاحتيال الماديُّ. غير أنَّ هناك من أنواع النَّصب ما هو أشدُّ وأبشع خطرًا، وأسوأ وأعمُّ ضررًا وهو “النَّصب السِّياسيُّ”، والذي يأخذ أشكالًا عديدة قد تمارسها الكيانات السِّياسيَّة، والأفراد السِّياسيُّون، المتحلِّلون من الأخلاق الأساسيَّة والثوابت القيميَّة، ولعلَّ أكثر عمليات النصب السِّياسيِّ شيوعًا هي الوعود الكاذبة للناخبين واستغلال فقرهم وقلَّة وعيهم وحاجتهم خلال فترة الحملات الانتخابيَّة، ثُمَّ يأتى النوع الآخر، المرتبط بالسَّابق والمكمِّل له، بعد انتهاء الانتخابات ويتمثَّل في اختلاق الأعذار الكاذبة من قِبَلِ المسؤولين لتبرير فشلهم، أو عدم الوفاء بتعهُّداتهم.
وخلال هذه الفترة العجيبة والكئيبة من تاريخ مصر السِّياسيِّ تمَّ اختراع ممارساتٍ سياسيَّة لم تكن معروفة من قبل في بلدنا على وجه التأكيد، ولا في أيِّ مكانٍ في العالم على الأرجح، ومن أكثر تلك الممارسات تداولًا على ألسنة المواطنين هذه الأيام، وبمناسبة الانتخابات البرلمانيَّة، هي الإجابات شبه المتطابقة بين الجماهير المختلفين حول: من يختار المرشّحين (الموعودين بالفوز) في مجلسي الشّيوخ والنّواب؟ وعلى أيِّ معايير يتمُّ اختيار هؤلاء المرشَّحين؟ وأين يتمُّ التفاوض على أسماء المرشَّحين والنّسب المخصَّصة لـ (الأحزاب) قبل أن توضع القوائم النهائيَّة؟ وما هو المقابل المدفوع والمقبوض في كلِّ ذلك؟ وما هي النتيجة المنتظرة من برلمانٍ يتمُّ هندسة انتخاباته بهذا الشكل؟ وبناءً على كلِّ الأسئلة السابقة فإنَّ السؤال الأكثر شيوعًا، والوحيد الذي تنقسم الآراء عند الإجابة عليه، هو عن معنى وجدوى المشاركة في ظلِّ هذا الواقع الأليم، وما إذا كانت تلك المشاركة قادرة على أن تُحدث أثرًا كبيرًا أو صغيرًا في مسار الطريق إلى المستقبل المنشود، وأخيرًا عن البدائل المطروحة من قِبَلِ أصحاب الرأي (الذي لا يخلو من وجاهة) القائل بضرورة مقاطعة هذا المشهد البائس.
أمَّا أعجب الاختراعات في عالم السِّياسة والانتخابات فهي أن تجد أحزابًا وسياسيِّين يدَّعون بأنَّهم يعارضون السُّلطة ويرفضون طريقتها في الحكم، وأنَّهم غير راضيين عن نتائج ممارستها لعملها، أقول يدَّعون ذلك أو يسمُّون أنفسهم كذلك، ثمَّ يلهثون وراء تلك السُّلطة لاستجداء بعض الكراسيِّ في سوق الانتخابات على قوائم نفس السُّلطة التي يريدون منَّا أن نصدق أنَّهم يعارضونها، ثمَّ يبلغ الانحطاط السِّياسيُّ ذُروة مداه حين نرى كيف توزِّع تلك الأحزاب هذه الغنيمة، كما يُفترض أن تراها، والفضْلة كما يُفترض أن يراها من يقدِّمها، على من يطلبها ويستطيع أن يدفع ثمنها.
كيف تُبرِّر تلك المعارضة الذَّيليَّة لنفسها الإذعان في خداع البسطاء ممن لا يتابعون ما يجري في دهاليز السياسة وعلى أيدي كهنة الساسة؟ وكيف يجرؤ هؤلاء النَّصابون السَّياسيُّون على احتقار الذين يعرفون من ذوي العقول السويَّة عندما يصفون أنفسهم بأنَّهم معارضة؟ ألا ينطبق عليهم المثل الشهير: “يأكلون مع الذئب ويبكون مع الراعي”؟ يصيحون في المؤتمرات ويخطبون في القاعات وينشرون البيانات التي يمثِّلون فيها أنَّهم مع النَّاس وفي صفهم في مواجهة السُّلطة التي يستجدون وُدَّها ويتسابقون مهرولين وهم يسترضونها ويرضخون لشروطها ويقبلون ما تتكرَّم به عليهم لتمنحهم بعض كراسيِّ (وطبعًا في عالم السياسة وفي الحياة بصفة عامة مفيش حاجة ببلاش ولكلِّ شيءٍ ثمن)، والثمن هنا معروفٌ لعموم النَّاس.
ويبقى المحزن والمعيب أن يتواطأ بعض أصحاب الإرادة الحرَّة الذين يمارسون حقهم في العمل العام وفي التعبير عن آرائهم وإعلان مواقفهم بما تمليه عليهم عقولهم وضمائرهم، فيقدِّمون غطاءً يحاول ستر عورة هؤلاء الأدعياء الذين يمارسون النَّصب والرذائل السِّياسيَّة. وحين تسأل هؤلاء الوطنيِّين عن السبب في هذا الفعل المتناقض تجدهم يجادلون في أنَّه الخجل من الزمالة والعشرة التي جمعت بينهم وبين هؤلاء وقت أن كانوا يسلكون طريقًا واحدًا أو طرقًا متشابهة وتجمعهم أهداف مشتركة، لكن ذلك لا يُبرِّر هذا السلوك وإلَّا فلماذا يعيبون على السُّلطة تقديم أهل الثقة والتمسُّك بالمحسوبين عليها، والمحسوبة عليهم، على أهل العلم والخبرة والكفاءة؟!
إنَّ الأحقَّ بالشعور بالعار هم من يمارسون الخطايا السِّياسيَّة، بينما لا يملك الأحرار الحقَّ في تقديم الخجل على حساب الانتماء والولاء لصالح الوطن وحقوق المواطنين. وهنا أتذكَّر ما قلته في كلِّ محيطٍ سياسيّ جمعتني فيه الزمالة البرلمانيَّة والسِّياسيَّة والحزبيَّة “مش هنشتري خواطر بعض على حساب النَّاس، واللي مش مكسوف من نفسه وهو بيرتكب فضائح سياسيَّة ما ينتظرش منّي أتكسف وأداري عليه وأستره.. كده أبقى شريكه على الأقلِّ بالتواطؤ في خداع النَّاس والنَّصب عليهم”.. إنَّ معنى المعارضة في العالم كلِّه وفي كلِّ التعريفات هي أن تكون بديلًا للسُّلطة، ولا يوجد أيُّ استقامةٍ سياسيَّةٍ في أن تجد من يستجدي منها مكانًا في قوائمها الانتخابيَّة ثمَّ يكون له عين أن يعارضها (بحق وحقيقي مش كده وكده) في المجالس النَّيابيَّة.
أمَّا المعارضة الحقيقيَّة الجادَّة التي تُقدِّم نفسها للشعب بديلًا للسُّلطة لا تابعًا لها، فلها مقامٌ آخر، وعليها واجباتٌ أخرى، وسأعود للحديث عنها وعنهم في مقالٍ قادم. وإلى جانب هذه المعارضة الحقيقيَّة البديلة وتلك الوظيفيَّة التابعة توجد معارضاتٌ أخرى (احتجاجيَّة – يائسة – ناعمة – منفلتة) أكتب عنها لاحقًا بإذن الله.





