مشاركات سوريا
في قلعة دمشق قبل اندلاع الثورة السورية ضد بشار٬ بسنتين ونصف٬ أقام زياد الرحباني حفلة موسيقية ضخمة٬ حازت نجاحاً باهراً٬ وشكلت حدثاً جماهيرياً في العاصمة السورية، وسبقها تحضير كبير٬ بعضه بتطوع شعبي٬ لنشر إعلانات الحفل في الشوارع الرئيسية والحارات الفرعية في دمشق مع معلومات تعريفية عن الفنان المعروف جداً..
كان زياد قد بنى سمعة فنية عميقة كموسيقي وكاتب مسرحي ومغنٍّ أيضاً، وأصبحت شخصيته الساخرة ونظرته العدمية٬ مفضلة بين الشباب السوريين الذين ورثوا هزائم لا تحصى ونظاماً أمنياً مرعباً وواقعاً اقتصادياً صعباً، ورأوا في زياد رمزاً للتمرد الفكري والاجتماعي، من خلال قصة حياته أو أعماله التي مزجت بين موسيقى الجاز المحسوبة على كلاسيكيات الموسيقى الأمريكية٬ والنقد السياسي المعادي للغرب والسخرية اللاذعة من الأحداث.
زياد الذي كان معروفاً بقربه من الحالة الشعبية وجمهور الشاب٬ أعلن عن أسعار تذاكر منخفضة للحفل٬ مع خصم للنصف لطلاب الجامعات٬ وصرح أنه لن يتقاضى فلساً واحداً عن هذا الحضور الذي سيعود ريعه للفرقة الموسيقية والفريق التقني فقط٬ عشرون دولاراً (أو نصفها) ثمن حضور حفل موسيقي تحييه قامة فنية بهذا الحجم٬ دفعت لاستقطاب عدد كبير من الطلاب والشباب السوريين، الذين توافدوا بحماس كبير٬ فبالنسبة لهؤلاء، لم يكن زياد فناناً فقط، بل صوتاً يعبر عن مشاعرهم الساخطة وأملهم الضئيل٬ أحبوا انتقاده الجريء للفساد والظلم وللفجوة الاجتماعية والاقتصادية العميقة٬ إلى جانب مقطوعاته الموسيقية العذبة.
تفاعل الجمهور بسعادة مع أدائه في الحفل، ورددوا كلمات أغانيه كلها٬ وضحكوا على تعليقاته الساخرة التي كان يلقيها عليهم بين المقطوعات. كان محبوباً من قبل شريحة كبيرة من الشباب المعجبين بأسلوبه ونقده للتسلط، لكنه أثار خيبة أمل كبيرة لديهم حين أعلن عدم اعترافه بثورتهم.
ابن فيروز وعاصي الرحباني، نشأ في بيئة فنية مزجت بين الثقافة الموسيقية والكلمات المدهشة والصوت الملائكي٬ عايش الحرب الأهلية في بلده لبنان٬ وعُرف بانتمائه اليساري، وتأثره العميق بالفكر الشيوعي، لكنه اتفق مع موقف نظام الأسد الذي قمع من دون هوادة الأصوات التي صرخت وغنت ضده في شوارع المدن السورية٬ هذا الانحياز أكده الفنان الشاعر أحياناً٬ وقلل من دقته في أحيان أخرى٬ مع ذلك لم ينجُ من مواجهة سخط شعبي كبير، من السوريين الذين سمعوه يكرر في المقابلات عن إعجابه بصمود الأسد وتحذيره من أن سقوط النظام السوري سيؤدي إلى فوضى عارمة في المنطقة، حتى قال في إحدى المقابلات إن الأسد يمثل قوة توازن ضرورية لمنع حدوث تدخلات خارجية!
قد يحتار البعض في تفسير منع التدخلات مع وجود لا يمكن حصره حينها من القوات الإقليمية والدولية على الأرض السورية٬ لكن التدخل الأجنبي في منظور زياد استند إلى رؤيته الأيديولوجية المناهضة للإمبريالية الغربية، حيث رأى أن المعارضة السورية ليست سوى أداة بيد قوى خارجية، وأنها تفتقر إلى الشرعية الشعبية٬ من دون التوقف عند أحقية المطالبات بالحرية والكرامة في وجه نظام يعرف زياد جيدا أنه قمعي.
أبدى الفنان الراحل أيضاً إعجاباً كبيراً بحسن نصر الله، دون أن يتطرق لجرائم حزب الله العابرة للحدود ضد الشعب السوري٬ لم يكن لديه على ما يبدو موقفاً معارضاً لها٬ خاصة أنه يعتبر نصر الله قائداً استراتيجياً يدافع عن مصالح الأمة العربية٬ حتى أن زياد استثمر اسم والدته المطربة الأسطورية في دعم موقفه السياسي٬ فقال في إحدى المقابلات إنها “تحب” حسن نصر الله. هذا التصريح أثار جدلاً كبيراً في الفترة التي قيل فيها٬ بينما كان يعيش جزء كبير من الشعب السوري الذي سمع فيروز وعشق صوتها٬ صراعاً دموياً مع نظام يدعمه نصر الله٬ وأثير نفس الجدل في لبنان٬ بلد زياد٬ الذي يفرض فيه الحزب واقعاً سياسياً مرهقا بقوة السلاح والدعم الخارجي من إيران.
كانت فيروز على مدى تاريخها الطويل تصر على مغازلة المدن بدلاً من الزعماء٬ ولديها مع فريقها الذي تكون من زوجها عاصي وأخيه منصور٬ وربما شقيقهما إلياس٬ حساسية واضحة من تقديس الشخصيات المتنفذة٬ لكنها بعد أن تجاوزت الثمانين تعرضت لموقف محرج٬ ومخالف لما ألفت عليه٬ حين قرر ابنها الكبير إدراج اسمها في استقطاب سياسي من هذا النوع٬ وبعد زوبعة سياسية أثارها زياد في الأوساط الصحفية والشعبية٬ لم يتراجع عن تأكيد ميل والدته السياسي٬ بل قال فقط إنها غضبت منه بسبب إفشاء سرها الذي لا تفضل أن يعرفه أحد٬ لكن يبدو أنه وجد ضرورة في إعلان ما يتماشى مع رؤيته السياسية٬ وهذا يكفي بالنسبة لزياد لعدم احترام رغبة والدته في إبقاء فنها موحداً للناس، وبعيداً عن الانقسامات.
مواقف زياد السياسية لم تقتصر على المنطقة العربية، بل امتدت إلى تأييده للقيصر الذي قرر غزو أوكرانيا قبل سنوات٬ فقد رأى في فلاديمير بوتين زعيماً عالمياً يقاوم الهيمنة الغربية، ولا بد أن التدخل الروسي في سوريا عام 2015، أسعد زياد الرحباني كما أسعد بشار الأسد٬ الذي أعاد بفضله السيطرة على مناطق واسعة من البلاد كانت قد خرجت من يده خلال سنين الثورة الأولى٬ ولم يحاول أحد تذكير زياد بتفاصيل الغارات الروسية التي تسببت في مقتل آلاف المدنيين السوريين٬ ربما لوضوح عدم جدوى التذكير معه.
السوريون مثلي الذين كانوا يحبون زياد رحباني ويرددون أغنياته وعباراته وقفشات من مسرحياته٬ أصيبوا بخيبة أمل كبيرة من مواقفه الموالية للدكتاتور تساوي أو تزيد على خيبة أمله هو نفسه من العالم الذي لا يراه عادلاً٬ فقد كانوا يعتبرون أن صوتاً كصوته يجب أن يكون معهم، في صفهم٬ لا أن يدعم سلطة فاشية يحتكر فيها بعض أقارب الرئيس كل أموال البلد٬ ويتحكمون بمصيرهم.
زياد ليس المبدع الوحيد الذي وقع في تناقض جلي بين فنه ومواقفه٬ لكن بالتأكيد ليس علينا الوقوع في تناقض مماثل والقفز فوق تجاهله لحيوات السوريين بشبابهم ونسائهم وأطفالهم٬ والمبالغة في إظهار الحزن وسكب الدموع على فقدانه٬ والتنافس لإبداء الحنين لوجوده الذي لم نعد نشعر به منذ سنوات.