آراء

الساخر الحزين يرحل… والإبداع يندثر!

يوليو 28, 2025

الساخر الحزين يرحل… والإبداع يندثر!

قلةٌ هم من لم تطرق مسامعهم أعمال الثائر المسرحي والمتمرد الموسيقي زياد الرحباني، اسم لم يرتبط بجارة القمر فيروز فحسب، بل نسج بإبداعه حكاية وطنٍ وأوطانٍ عربيَّة يأكلها الوجع وينهشها القهر والظلم. من منا لم يسمع فيلمًا أمريكيًّا طويلًا؟ تلك المسرحية التي لم تنتهِ فصولها حتى كتابة هذه السطور، من لم يسأل دومًا مع زياد: “بالنسبة لبكرا شو؟” السؤال الذي لم نبلغ إجابته حتى اليوم، وغيرها الكثير من الكلمات والعبارات التي حفرت عميقًا في وجدان الشارعين اللبنانيّ والعربيّ من خلال أعمال وأغنيات ومسرحيات ساخرة جسدت الواقع ووضعت الإصبع على جراحنا المفتوحة.


لا يختلف اثنان على أنَّ زياد الرحباني شخصيّة متميّزة انتفضت على حاضر مهترئ، ومستقبل مجهول منذ لحظة الولادة وحتى الموت، وكما قال ذات يوم ضاحكًا مستهزئًا: “بأنَّه وعلى بعد خمس دقائق من ولادتك أيُّها الإنسان ثمَّة من سيقرّر اسمك وجنسك وطائفتك، فيما تقضي طيلة حياتك تقاتل وتدافع بغباءٍ عن أشياء لم تخترها”. هكذا وببساطة وعفويّة ركل الرحباني مفاهيم ومبادئ لم يقتنع بها يومًا؛ فانغمس بأعماله الشعبيّة والفنيّة المبدعة، واشتهر بمقابلاته التلفزيونيّة والإذاعيّة التي شكّلت جزءًا كبيرًا من أرشيف الذاكرة الجمعيّة اللبنانيَّة والعربيَّة لا سيما في فترة السبعينيّات والثمانينيّات مع نشوب الحرب الأهليّة في شوارع بيروت ومعظم المناطق اللبنانيّة.


بين السخريّة والعمق والتّمرد والحب صنع الرحباني أسلوبًا فنيًّا خاصًّا شكّل امتدادًا لأعمال الرحابنة في لبنان، وعلى رأسهم فيروز التي تعيش اليوم أقسى أحزانها وأشدّها مع رحيل نجلها الأكبر ورفيق دربها على خشبة المسرح، وملحن الكثير من أعمالها منذ رحيل والده عاصي الرحباني.

زياد الرحباني المولود عام 1956، شقّ طريقه بأسلوبه الخاص وتفرّد بطابعٍ فنيّ استثنائي، ليصبح من أبرز المجدّدين في الموسيقى العربية، إلى جانب بصمته في المسرح السياسي الساخر، من خلال أعمال جمعت بين الجرأة والعمق والثورة والسخرية اللاذعة، وناقشت تلك الأعمال قضايا الإنسان العربيّ، في ظلّ الحروب والتناقضات في طرحٍ جريء واستثنائي شكل الوعي الجمعي، وأطلق إلى العلن صوت الشعوب الحرة والمقهورة في آن. كما أدخل عناصر الجاز والأنماط الغربيّة إلى الموسيقى الشرقية، ونجح في خلق إبداعٍ جديد بأسلوبٍ بسيط ومحترف طبع مسيرته الحافلة والغنية.


مزج الرحباني بين عشقه للسياسة والفن معًا، ولم يتبنَّ الحياد في المواقف تجاه القضايا الجدليّة بل عُرِف بتصريحاته المثيرة للنقاش الساخن وثورته على الانقسام الطائفي والمذهبي، ولم يُخفِ يومًا ولاءه للمقاومة في فلسطين ولبنان كوسيلةٍ نضاليَّة وحيدة للتحرر ودحر الاحتلال والاستعمار، وطالما صرّح بجرأةٍ عن تأييده للعمل العسكريّ للمقاومة اللبنانيَّة وكذلك المقاومة في غزَّة، وهو القائل: “الوطنية تعني أن تكون ضد إسرائيل”، ما عرّضه لموجة انتقاداتٍ واسعة من أطراف أخرى مناهضة لخيار المقاومة وحمل السلاح، كما كان مستشرفًا يصوغ كلام الحاضر للمستقبل، والعبقريّ العارف ببلاهة الكثيرين وجهلهم وحقدهم، والناقم على مُدّعي الفهم والمعرفة في ما هم أقرب إلى قنبلة صوتيّة صاخبة تثير ضجيجًا ولا تثير فعلًا.


حزن كبير خيّم على الوسط الفنيّ والثقافيّ العربيّ، وفتح الباب مجددًا على جدلٍ مؤلم يؤرخ لمرحلة معاصرة من فقدان الإبداع والمبدعين، وغياب العقول الثقافيّة والفنيّة التي لم ولن تتكرر، إذ ترافقت عبارات النعي والحزن مع عبارات الإحباط والخزي في عالم يودّع مبدعيه ولا ينجب أمثالهم، ويكتب حكايةَ أوطانً يصيبها داء التبلّد والتراجع، مع اجتياح العقول موجة جارفة من السطحيّة والخفة، والركض وراء القشور والفنون الركيكة في غياب شبه تام للاستثناءات المضيئة والمبهرة، فلم نَعُد نسمع عن أعلامٍ وقاماتٍ رفيعة تسبق عصرها، وفلتات هذا الزمن لم تَعُد للشعراء والأدباء والكتاب والملحنين، إنّما للبلوغرز والتيكتوكرز وغيرها من صيحات الموضة الإعلاميّة والفنيّة الهزيلة والفارغة التي تجذب الجيل الجديد. فيما يتحسر كثيرون على رحيل الاستثناءات المرموقة أمثال الرحباني، وكأنّما هذه الدنيا الموحشة لم تَعُد دنياهم، وهذا الزمن الشّاذ ليس زمنهم فغادروه ضجرًا ويأسًا بعدما قالوا ما عندهم ومضوا، وبعدما أدركنا واقعًا لا مكان للفرسان القدماء فيه.


يطوي زياد الرحباني برحيله صفحةً مضيئةً من تاريخنا، ومن ذاكرتنا، ومن إبداع نتكئ عليه في قضايانا وهمومنا المتكاثرة، يستريح كأسطورةٍ إبداعيةٍ تركت إرثًا خالدًا للأجيال القادمة، ينام ليحلم بوطنٍ لم يأت وببلدٍ لم يصبح بلدًا تمناه وعشقه. قلت يوما يا زياد: “أخشى أن أطيل النوم كي لا يذهب الجميع وأظلّ وحدي”، وها أنت تنام إلى الأبد، فيما نحن وحدنا نواجه ونكابد عناءَ هذا الزمن ببشاعته وقسوته، وقلت لنا أيضًا: “حبوا بعضكن” ونحن نقول لك: “مش حلوة بلاك البلد”!

شارك

مقالات ذات صلة