أدب
في تقاطعٍ نادر بين الشعر والمسرح، وبين السياسة والبوح، يبرز اسم لقمان ديركي أحد أكثر الأصوات السورية تفرداً وجرأة. شاعرٌ وكاتبٌ وممثلٌ ومؤسس مشاريع ثقافية، اختار أن يكون صوتاً للناس لا صدى للسلطة، وأن يجعل من القصيدة مساحةً للحرية، ومن المنفى بيتاً مؤقتاً للكلمة.
ولد ديركي عام 1966 في بلدة الدرباسية شمال شرق سوريا، وسط بيئة غنية بالتنوع الثقافي والديني، حيث تعايش الأكراد والسريان والآشوريون والأرمن والعرب. هذا الخليط المبكر شكّل وعيه تجاه الاختلاف، وترك أثراً عميقاً في كتاباته التي تحتفي بالهامش وتنتقد المركز.
انتقل لاحقاً إلى حلب لدراسة الأدب الفرنسي، وهناك انخرط في ملتقيات أدبية شبابية في الثمانينيات، قبل أن يستقر في دمشق ويخوض غمار المسرح والصحافة، مؤسساً لنمط شعري لا يشبه أحداً.
في وقتٍ كانت فيه القصيدة التقليدية تهيمن على المشهد، كتب ديركي قصيدة النثر بلغةٍ عامية، جريئة، ساخرة، وحزينة في آن. من دواوينه: كما لو أنك ميت، وحوش العاطفة، الأب الضال، ولا غبار عليكِ. في نصوصه، تتجاور السخرية مع الحنين، والبوح مع التهكم، ليخلق عالماً شعرياً خاصاً، بعيداً عن التنميط أو المجاملة.
عام 2006، أطلق مشروع “ليلة بيت القصيد” في دمشق، وهي فعالية أسبوعية جمعت شعراء من مختلف اللغات والثقافات، وخلقت جمهوراً تجاوز 300 شخص في كل أمسية. لاحقاً، نقل التجربة إلى النرويج و بلجيكا، مؤمناً بأن الشعر يمكن أن يكون مساحة لقاء لا تحدها الجغرافيا.
شارك ديركي في تأسيس جريدة الدومري، أول صحيفة مستقلة في سوريا بعد عام 1970، إلى جانب رسام الكاريكاتير علي فرزات. كانت تجربة جريئة في التعبير، لكنها لم تدم طويلاً. كتب لاحقاً زاوية يومية في صحيفة بلدنا الخاصة لمدة 5 سنوات، قبل أن تتوقف إثر تصاعد الأحداث السياسية عام 2011.
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، غادر سوريا مع عائلته إلى كردستان العراق، ثم إلى تركيا، ليستقر لاحقاً في فرنسا. في منفاه، واصل الكتابة، وقدم برنامجاً إذاعياً بعنوان ألف سردة وسردة عبر إذاعة سوريالي، حيث مزج الحكاية بالشعر، والذاكرة بالواقع.
لم يكن ديركي شاعراً محايداً، بل كان منحازاً بوضوح إلى الناس، إلى الحرية، وإلى الكلمة التي تفضح القمع. انتقد السلطة السورية بأسلوب ساخر، ورفض أن يكون جزءاً من أي خطاب رسمي أو حزبي. في إحدى مقابلاته، قال: “الشاعر الذي لا يزعج السلطة، لا يزعج أحداً”.
موقفه السياسي لم يكن شعاراتياً، بل تجلّى في اختياراته الفنية، وفي انسحابه من المشهد الإعلامي الرسمي، وفي مغادرته سوريا بعد أن ضاقت به السبل. في قصائده، يظهر الوطن كجرح، والمنفى كضرورة، والهوية كحالة مقاومة.
في نصوصه الأخيرة، يتحول المنفى من جغرافيا إلى حالة وجودية. يكتب عن الغربة، عن المدن التي لا تشبهه، وعن وطنٍ صار بعيداً. لكنه لا يغرق في الحنين، بل يواجهه بالسخرية، ويحوّل الألم إلى نصٍ قابل للضحك والبكاء في آنٍ واحد.
لقمان ديركي ليس شاعراً تقليدياً، ولا كاتباً يبحث عن الجوائز. هو صوتٌ هامشيٌ اختار أن يكون قريباً من الناس، وأن يجعل من الشعر مساحةً للحرية، ومن المسرح منصةً للبوح، ومن المنفى بيتاً مؤقتاً للكلمة.