مجتمع

فلسفة الهامش: كيف تفسر الرقة التهميش والتمرد؟ الرقة نموذج فلسفي للهامش الذي ينتج الغضب، التمرد، وربما الوعي

يوليو 28, 2025

فلسفة الهامش: كيف تفسر الرقة التهميش والتمرد؟ الرقة نموذج فلسفي للهامش الذي ينتج الغضب، التمرد، وربما الوعي

في حديثي اليومي مع صديقي والذي نناقش فيه مثل كل السوريين الوضع العام وملفات البلاد العالقة، كان نقاشنا في الأمس يتناول كيف أن المدن السورية الكبرى -دمشق وحلب تحديداً- قد استقطبت الثقل السياسي والثقافي والاقتصادي ما بعد سقوط الأسد، كما هو الحال قبل ذلك، بما كنا نسميه “سوريا المفيدة”، بينما بقيت المدن الأصغر كالرقة، والتي يمكن تسميتها بـ “سوريا السمراء”، تعاني التهميش الذي يمكن وصفه بالممنهج، متروكة على أطراف الخريطة جغرافياً ومعرفياً، الوضع الذي فرض عليها ليس واقعها كمدينة مهمشة فقط، بل نموذجاً فلسفياً للهامش.

 

فيما عانت الرقة لعقودٍ طويلةٍ من هذا التهميش، رغم ثرائها الجغرافيّ والطبيعيّ، إلا أنها لم تكن ضمن خطط التنمية، ولا محوراً للصناعة أو التعليم العالي، بل ظلّت مُسبغة باعتبارها “منطقة نامية” لا تصلح لأكثر من زراعة القمح والقطن، حتى خلال الثورة السورية، بينما كانت شاشات الفضائيات تُقسم ناقلة مشاهد الاحتجاجات من كلّ المدن السورية، بقيت الرقة والتي نحب أن نسميها نحن أبناءها “عاصمة التحرير” حبيسة منشوراتنا على وسائل التواصل الاجتماعي.

 

هذا التهميش الكبير، بنظرنا، خلق شعوراً جماعياً باللا انتماءِ، أو كما يسميه بول ريكور “الفراغ السّردي” حيث لا تروى قصة الذات في الحكاية الوطنية. أو كما يطلق عليه غرامشي مفهوم “التّهميش الثقافي” حيث لا يُقصى الفرد أو الجماعة من الموارد فحسب، بل من الرمزيّة نفسها، ومن الحق في تشكيل خطاب الأمّة.



ربما لم تكن فكرة الحرية والعدالة بمعناها العميق مفهومة لدى قسم كبير من أبناء الرقة مع بداية الربيع العربي والثورة السورية، إلا أن الهامش الذي كانوا يعيشون عليه عمل مولداً للغضب، وشكل إحساسهم العميق بالغربة السياسية والاجتماعية فيما يمكن تسميته بـ “عنف اللاانتماء” حيث لا ينبع التمرد من إرادة أيديولوجية، بل من رفض وجودي لصورة السلطة وصوت المركز.

 

 

وفيما عاشت الرقة بعد تحريرها في أذار/ مارس 2013 أجمل تجاربها كمدينة محررة، حاول أبناؤها، بكل ما أوتوا من عزيمة، أن يديروا شؤونها ويسيروا أمورها، برز تنظيم “داعش” من بين الفراغ، محاولاً ملء غياب السلطة بقناعِ المقدسّ والعقاب، مدعياً تمثيل “الأمة” بدل الدولة. لتنتقل الرقة من هامش التاريخ إلى مركز الجمر، بكلّ ما يحمله من رعب وتوحش، والذي لا يمكن قراءتُه بوصفه نتاجاً عضويّا للمدينة، بل هو النتيجة المباشرة لذلك الفراغ السياسيّ والعسكريّ والثقافيّ الذي تُركَت فيه الرقة عمداً، لينهشَها الغياب، قبل أن تنهشها الرايات السود.

 

 

يحلل جان بودريار هذه الظاهرة بما يسميه “محاكاة القوة” حيث ترتدي الجماعات الهامشية قناع السلطة، دون أن تكون سلطة حقيقية، بل محاكاة رمزية لها. فـ “داعش” لم تكن دولة، إلا أنها لبست خطاب الدولة، واحتكرت عنفها، وفرضت قوانين صارمة، مستولية على المؤسسات معيدة بناء القمع بلغة جديدة، إلا أنها في الحقيقة جسدت ذروة الانفصال عن المركز.

 

 

تلك التجربة لم تنته عند العنف، فمن قلب التهميش، برزت أصوات ثقافية ومدنية جديدة في الرقة، ونشأت مبادرات شبابية، ومراكز مجتمعية وحملات توثيق وانبعثت سرديات بديلة، فيما يسمى بـ “الوعي المقاوم” حيث يبدأ الهامش بطرح تصور جديد للذات، لا يطلب فيه الشرعية من المركز، بل يعيد بناء معناه انطلاقاً من تجربته الخاصة.

 

ليتجلى هنا بوضوح كيف يمكن للهامش أن يكون مولّداً، لا فقط للعنف، بل أيضاً للفكر. فالرقة، من كونها هامشاً مهمشاً، بدأت تتحول إلى ذات واعية، تحاول أن تكتب قصتها، لا كما يراها الآخر، بل كما عاشتها فعلاً.

 

 

فهي اليوم بعيون أبنائها ليست مجرد مدينة نائية على ضفاف الفرات، بل سؤال مفتوح على اتساع الجغرافيا والتاريخ، فماذا يعني أنّ يُترك الإنسان في الظل طويلاً؟، أو أن يولد طفلٌ في أرض لا تُرى إلا من نوافذ المروحيات أو نشرات الأخبار؟، وقد علمنا التاريخ أن التمرد لا يولد في قاعات المؤتمرات، بل في الأزقة الضيقة، في المدن التي سُحبت منها اليد ولم يُترك فيها إلا الصمت. فالرقة هي المكان الذي تركته السلطة من فرط احتقارها له، فصارت بغيابها اعترافاً مضمراً بأن الأطراف لا تُحسب من نسيج الوطن. لكن الأطراف لا تموت، بل تتخمر. وفي لحظة بعينها، تصير قابلة للانفجار أو للخلق.

 

فاليوم لا نحتاج إلى إعادة بناء الرقة فقط كأبنية وبنية، بل كمعنى. كجزءٍ لا ينفصل عن رواية سوريا كلها. وذلك لا يتم إلا بإعادة توزيع الضوء على الخارطة كلها، وبفهم أن الوطن ليس مساحة تُدار من الأعلى، بل من كل خلية فيه، مهما بدت بعيدة منسية.

حينها فقط – حين تُصبح الأسئلة القادمة من الرقة جزءاً من اللغة الوطنية يمكن القول إن الهامش لم يصر مركزاً فقط، بل إن الوطن ذاته تغيّر، ليس بسطوة القوة، بل بقوة المعنى. فمن لا يُنصت للهامش، يصحو على صوته حين يتحول إلى زلزال.

شارك

مقالات ذات صلة