يطلّ علينا فيلم “The Children Act” أو “قانون الأطفال” كمرآة أخلاقية تعكس هشاشة العدالة حين تصطدم بالمشاعر الإنسانية، وهو للمخرج “ريتشارد إير”، الذي أتحفنا في عام 2006 بفيلم “Notes On A Scandal”.
الفيلم من إنتاج عام 2017، وهو مقتبس عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب “إيان ماك إيوان”، التي أصدرها عام 2014، وقام بنفسه بكتابة النص السينمائي بشكلٍ رائع، وهو معروف بقدرته على الغوص في أعماق النفس البشرية، كما فعل سابقًا في روايته الرائعة “Atonement” التي تحوّلت إلى واحد من أعظم الأفلام الدرامية الرومانسية في عام 2007.
تدور أحداث الفيلم حول “فيونا ماي”، وهي قاضية مرموقة في المحكمة العليا البريطانية، ومشهورة ببراعتها القانونية، وحفاظها الصارم على المهنية، حتى على حساب حياتها الزوجية المنهارة.
تتلقّى “فيونا ماي” قضية حسّاسة حول فتى في السابعة عشرة من عمره يُدعى “آدم هنري”، وهو مصاب باللوكيميا ويرفض عملية نقل الدم لمعتقدات دينية، وحياته مهدّدة، و”قانون الأطفال” يسمح للقاضية أن تتخذ القرار نيابةً عنه لكونه قاصرًا، لكنها تقرّر أن تزوره في المستشفى لمحاولة فهم أسبابه، فتتغيّر الأمور.
وتلك الزيارة التي كان يفترض بها أن تكون خطوة إجرائية تتحوّل إلى تواصل إنساني شديد العمق، وتنشأ علاقة فريدة وغير مألوفة بين القاضية والمراهق، ولا يمكن تصنيفها ضمن مفرداتنا المعتادة، فهي ليست علاقة حب ولا شفقة، بل التقاء عاطفي روحي بين شخصين ضائعين في متاهات الحياة والقرارات.
“قانون الأطفال” هو قانون صدر عن البرلمان البريطاني عام 1989، ويُعدّ من أهم القوانين الاجتماعية في بريطانيا، لأنه غيّر جذريًا الطريقة التي تتعامل بها الدولة والقضاء مع حقوق الطفل ورعايته، بحيث ينصّ على اتخاذ القرارات بناءً على ما هو في مصلحة الطفل، حتى لو خالف ذلك رغبات الوالدين أو الطفل نفسه.
تم تصوير الفيلم في لندن وقد حصل فريق العمل على دعم من القاضي المخضرم المتقاعد “آلان وارد”، الذي شارك بمعلومات دقيقة وأتاح لهم الوصول إلى مواقع قضائية حقيقية شملت التصوير في قاعات المحكمة، ممّا منح الفيلم واقعية مدهشة.
بلغت ميزانية إنتاج الفيلم حوالي 5 ملايين دولار، ولم يكن فيلمًا تجاريًّا يستهدف شبّاك التذاكر، بل فيلمًا فنّيًا إنسانيَّا يستهدف قلوب الجماهير، وقد حقق أرباحًا متواضعة في شبّاك التذاكر في بريطانيا وأمريكا وبقية دول العالم ولم تتجاوز 10 ملايين دولار.
لقد أبدعت “إيما تومبسون” في أداء شخصية “فيونا ماي” كامرأة مكبوتة من الداخل، بآلامها وشعورها بالذنب وحنينها لحياةٍ عادت لا تملكها، وبنظراتها الحزينة وصوتها المهزوز، ومع ذلك تم تجاهل أداءها من الترشيحات والجوائز، وأيضًا تجاهل الفيلم بأكمله بصورة مجحفة. “فيون وايتهيد” قدّم أداءً رائعًا ومؤثّرًا بشخصية “آدم هنري”، وكذلك “ستانلي توشي” بشخصية الزوج المُحْبَط “جاك ماي”.
في النهاية، لا يُمكن النظر إلى هذا الفيلم كقضية تُحسم بحكم قضائي، ولا كصراعٍ مألوف بين الطب والإيمان، أو بين سلطة القانون وحرية الفرد، بل عن ضعف الإنسان حين يختنق تحت عبء الواجب وثقل المنصب ويخذله قلبه، وعن تلك اللحظة التي ينكسر فيها التوازن، لا بفعل القانون، بل بفعل مشاعر مكبوتة انفجرت في صمت.