تأملات

أفكّرُ: ماذا لو عشتَ هذه المجاعة؟!

يوليو 25, 2025

أفكّرُ: ماذا لو عشتَ هذه المجاعة؟!

حبيبي كنان

مُلئت الأرضُ فساداً، حتّى بحثتُ عن الخبز فلم أجده،

وأُفكّرُ: لو كنتَ موجوداً كيف سأحتمل قولكَ لي: أنا جائع!

وماذا سأردّ عليك..

أعرفُ كم تحبّ الفاكهة، وكيف تأكلها بمزاجٍ يروقني، وأنت تقول لي بعد كل قضمة (ماما إنّها لذيذة)، أحبُّ كلَّ تلكَ التفاصيل بينك وبين كلّ لقمة، حتى وأنت تختار لون صحنك المفضل، وملعقتك الخاصّة، تطلبُ منّي تقطيع التّفاحة شرائح طولية صغيرة، أمّا البرتقالة فتطلبُ أنْ تبقى كما هي، وأنت تصرُّ عليّ بندائكَ المتكرر لا تقسميها، وأخاف حين أفكرُ كيف سأتعامل مع فقدانك لها فجأة؟

ولكن أن تفقد التفاصيل بينك وبين الطعام هو أهون بكثير من أنْ أفقدك.


أتوجعُ على الأمهات وهُنَّ ينظرن إلى عيون أطفالهنَّ الجائعة، وفي كلِّ عيونِ طفل جائع، تستوقفني عيناك، وأقول: ماذا لو كانت عيون كنان؟ وفي كلِّ بكاء طفل يستوقفني صوتك، وأقول: ماذا لو بكى كنان؟

إنّ أسوأ ما فعله الاحتلال بغزّة، ليس قتلنا، بل إنّه ابتكر كل الأساليب الممكنة للقتل، ومن أسوئها أن تموت جوعًا، وأن تنحصر السعادة في كيلو طحين، بعد أن كان مفهوم السعادة كبيرًا وواسعًا وأنت تشاهد البحر أو تأكل البوظة أو حتى تستمع لمقطعٍ موسيقيٍّ أو حين تنظر من شرفة منزلك نحو السماء الواسعة!

فجأة تختلف المعايير، وتختل الأسس، ويفتك الجوع بكل محاولة للسعادة خارج إطاره، فيتقزَّم الإنسان يا ماما.

يصبح فقط باحثًا عن رغيف خبز، لا باحثًا عن معنى وجوده وعبوديته، باحثًا عن الهرب من عيون أولاده حين يقولون نحن جائعون وهو لا يستطيع إطعامهم، يصبح الجوع شبحًا كريهًا مهما حاولت إبعاده لن يبتعد، لأنّه رصاصة ليست طائشة، إنّها رصاصةٌ موجهة نحو إنسانيَّتك تمامًا.

وماذا بعد؟


صدقًا، لا أعرف، لا أجدُ نهايةً جميلةً للحرب، لا أستطيع افتراض شيء جميل أيضًا، الوهن ينخر عظامنا، والخذلان علّمنا كثيرًا، أكثر من أفلاطون ونظريات فرويد.

كنتُ دائمًا أجد صعوبةً في تعريف الخذلان، وكنتُ أظنُّ أنّ خذلان إخوة يوسف ليوسف هو التعريف الأنسب، لكنّه ليس معادلًا موضوعيًّا حقيقيًّا له، لأنّهم تركوا يوسف في الجبّ من أجل أن تلتقطه السيّارة، هم قدَّموا له محاولة للنّجاة حتى وإن كانت في لحظة إجراميَّة معتمة، لكنهم فعلوا.

أمّا نحن رُمينا بالجبّ، ثمّ أطلقوا ذئب الجوع والقصف والتشريد نحونا، ثمَّ أغلقوا منافذه، يمرُّ بنا العالم دون أن يرانا، وإن انزعج من صوت أنيننا، يضغط زر X على أيقونة السَّمَّاعة لكيلا يسمعنا

ما أبشع الحرب، وما أقذر الإنسان وهو يتحوّل إلى قاتل!

والأسوأ وهو يتحوّل أمام صراخنا إلى أصمّ،

وأمام دمنا المراق إلى أعمى.


قد يكون هنالك ضوء صغير ما زلنا نتبعه في هذه الأيام القاسية، وهو الحلم، من الجيد أنَّني أجيد الحلم، حتى هذه الإبادة لم تستطع أن تسرق منّي الحلم في أن  يأتي صباح اليوم التَّالي والحرب قد توقفت.

يصادف اليوم ال660 للإبادة على غزَّة، في كلِّ يومٍ أهمس للحرب:

توقفي أيتها المجنونة، توقفي ليصبح حلمي حقيقة.

صباحٌ دون حرب.


شكراً كنان، فقد علّمني موتك الكثير، أنّ الصواريخ لا تستطيع إطفاء جمال صورتك بذاكرتي، وأنَّ الجوع لم ينسني صوتك، وأنك تشعّ على عتمتي نورًا كلّما شعرتُ بالضيق.

سأظلّ قويّة من أجلكَ يا طفلي الحبيب،

لكيلا تتحوَّل إلى رقمٍ في نشرةٍ إخباريَّة،

وكي لا ينسى العالم أنّك طفلٌ رائعٌ وعظيم ٌوملهمٌ،

وكي تظلَّ لعنةً على الاحتلال.

أحبكَ يا كنان النور. 

شارك

مقالات ذات صلة