آراء

اللُّغَةُ بَيْنَ الهُوِيَّةِ وَالدِّينِ!

يوليو 24, 2025

اللُّغَةُ بَيْنَ الهُوِيَّةِ وَالدِّينِ!

اللُّغَةُ العربيَّة ليست مُجَرَّد حروف وكلمات، ولا يمكن اختزالها في مادةٍ دراسيةٍ أو واجبٍ منزليٍّ أو خطابٍ حكوميٍّ. العربية عندنا قضيّة، بل قل: هي قضيّة القضايا، لأنَّها من جنس القرآن، ومن وعاء النّبوة، ومن أوتاد الهوية الجامعة. وكل من تساهل في شأنها، إنَّما فرّط في لُبٍّ من لُبَاب دينه، وخان عن وعي أو غير وعي أمانة من أعظم أمانات الأمة. لهذا، لا غرو أن نعود في كلِّ حين نطرق النَّاقوس، ونرفع الصوت، وننثر الحبر من جديد لنُذكّر وَنُحذِّر ونؤصل. فمن غفل عن مركزية اللغة العربيّة، فقد انسل من ثيابه وهو لا يدري، وغرق في التغريب حتى ظنّه فكرًا، والجهل حتى حسبه تمدّنًا.


وقد بلغ الحال مبلغًا مخيفًا، حتى باتت العربيَّة غريبة بين أهلها، مهمشة في مدارسها، مستضعفة في منابرها، تُستبدل بأخرى في الإعلانات، وتُستبدل بأخرى في الجامعات، وتُستبدل بأخرى على ألسنة الجيل الجديد الذي تشكّلت له هويّة لغوية هجينة، لا تنتمي لعربية الفصحى ولا تنتمي لغيرها. دُقّ الناقوس، نعم، منذ زمنٍ بعيد، لكن الجرس كان يُقرع بأيدٍ خجولة، واليوم بتنا أمام خطرٍ لا يستر، وتقصيرٍ لا يُغتفر، وجهلٍ تربويٍّ لا يُطاق. وإن لم تكن هذه هي اللحظة التي نستعيد فيها لغتنا، فمتى تكون؟


إن أسباب تراجع استخدام اللغة العربيَّة ليست خفية ولا معقدة، ولكنها مريرة ومؤلمة. أولها ذلك الانبهار المزمن بكل ما هو أجنبي، وما زال في دواخلنا ذلك الشعور بالدونيَّة الحضاريَّة الذي يجعل لغات الآخرين “رُقيًّا“، ولغتنا “تخلفًا”! وثانيها أن منظومتنا التعليميَّة فشلت فشلًا ذريعًا في تقديم اللغة العربيَّة بوصفها حياة لا مادة، وهوية لا اختبارًا، ورسالة لا حفظًا بلا روح. وثالثها أنّ المؤسسات الثقافيَّة والفضائيَّات والمنصات الرقمية قد غدرت بالعربيَّة واستبدلتها باللهجات أو الإنجليزيَّة، وتخلَّت عنها وهي تعلم أنَّ التخلي عن اللغة هو مقدمة التخلي عن الأمة ذاتها. ورابعها أن الأسرة، للأسف، تراجعت أمام المدّ اللغويّ المستورد، فصرنا نسمع الأمَّهات والآباء يفخرون بأنَّ أبناءهم لا يتحدثون العربيَّة، وكأنَّها وصمة تُمحى لا وسامٌ يُعلّق.

لكن رغم كلّ ما سبق، فإنَّ الأمل لا يموت، والفرصة قائمة، وما زال في الأمّة من يغار، وما زال في الأمَّة من يربط بين اللغة والدين، بين العربيَّة والإيمان، بين الضاد والشهادة. ونحن إذا أردنا أن نعيد لغتنا إلى مركزها في حياة النشء والشباب، فلا بد أن نبدأ من معركة الوعي. لا بُدَّ أن نعيد تعريف اللغة عندهم، لا كأداة للنجاح الوظيفي، بل كراية حضاريّة، وامتدادٍ روحيٍّ وتاريخيٍّ، وميزان عزّة لا يجوز التخلي عنه. يجب أن نضع العربيَّة في قلب كلّ مشروع إصلاحيٍّ، ونُحمّل المدرسة مسؤوليتها، والإعلام واجبه، والأسرة دورها. يجب أن نربّي أبناءنا أنَّ العربيَّة ليست فقط لقراءة القرآن، بل لفهمه، وتذوقه، والتفاعل مع روحه، وأنَّها لغة الدعاء والانتصار والمقاومة، وليست لغة الامتحان فقط.


نحتاج إلى مدرسة تعلّم العربيَّة كما تُعلّم الحياة، لا كما تُلقن قواعد النحو المجفّفة. نحتاج إلى إعلام ينطق بلسان الأمة، لا بلسان المستعمر، نحتاج إلى مؤسسات تجعل من العربيَّة معيارًا للجودة، لا عبئًا للتجاوز. نحتاج إلى فقهٍ شرعيٍّ يؤصل أن المحافظة على العربية جزء من الدين، بل من مقاصده، وأنَّ الذين فرّطوا في لغتهم بدعوى التطور قد فرّطوا في شرفهم قبل عقولهم.

وحين نقول ذلك، فنحن لا نعادي اللغات الأخرى، ولا نكفر بالعلوم الأجنبية، بل نحن أوعى من أن نُستدرج إلى هذا التوصيف الساذج. نحن أمَّة قرأت الوحي بلسان عربيٍّ مبين، واحتضنت الأعاجم بعد أن تعلَّموا العربيَّة، لا بعد أن فارقوها. نحن نؤمن بتعدد اللغات، ولكن نرفض أن تكون اللغة العربيَّة هي الثمن. فلتُفتح أبواب التَّعلُّمِ، ولكن لا تُغلق نوافذ الهوية، ولتُدرس الإنجليزيَّة والفرنسيَّة، ولكن لا يكون ذلك على حساب فصاحتنا، وتاريخنا، ومركزية القرآن في قلوبنا.


اللغة العربيَّة لا تحتمل الحياد، فإمَّا أن نكون معها أو نكون أعداء أنفسنا. وفي زمن يُغتال فيه كل ما يربطنا بأمتنا من قرآنٍ وسنة وتاريخ، فإن المعركة على اللغة هي إحدى خطوط الدفاع الأخيرة. فمن انتصر فيها فقد دافع عن عقيدته وثقافته ومستقبل أطفاله، ومن خذلها فهو يتنازل عن وجوده نفسه، وإن ظنَّ أنّه ما زال يتنفس. فلنعد للعربيّة قدسيتها، ولنكتب بها، ونتحدث بها، ونفكر بها، ونحلم بها، فهي لغة الأنبياء، ولسان الجنة، وسلاح الصراع مع الاستعمار الثقافي. ومن ظنَّ أنَّ الأمَّّة يمكن أن تنهض بغير لغتها، فقد نام طويلًا في حضن الخديعة، ولم يستيقظ بعد.

 

شارك

مقالات ذات صلة