آراء
يا أبا عبيدة، ما أوجع عتابك وكلماتك، وما أصدق نبرتك حين تخاطب ضمائرنا الميتة التي باتت تألف العجز وتستمرئه، فلن أُحدّثكَ عن الأنظمة فلسنا مسؤولين عن فعالهم وتقصيرهم، لكن أُحدّثك عنَّا نحن الشعوب العربيَّة، نعم، لقد بلغ بنا الخذلان مداه، حتى غدت المرارة والغصة والمنغصات في قلوبنا تزداد كلّ يوم لمن بقي له قلب ينبض أو عين تبصر ما يجري في غزَّة من فصول الفناء.
وإني أيها القائد أبا عبيدة، من موقع الوجع والاعتراف لا المراوغة ، ومن حوادث التَّاريخ الجسام أقول لك: لقد مرّت هذه الأمّة ببلاءاتٍ شداد كالذي نعيشه الآن، وكُتبت في كتبنا صفحات من النكران والخذلان ما لا يُصدّقها عاقل ذو ضمير حي، فكم من مدينة سُبيت وكم من شعوب أُبيدت وكم من مسجد هُدم وكم من عالمٍ قُتل وكم من مناضل أُحرق حيًّا، في حين كانت شعوب الأمّة العربيَّة تتفرّج، إمّا صامتة أو عاجزة ، فيوم سقوط بغداد في يد التتار، لم تكن المصيبة عدد القتلى، بل كانت مشاركة بعض الجيوش الإسلاميَّة للعدو في الذبح والحصار لأهلنا في العراق!، ويوم اجتاح الصليبيون بيت المقدس في فلسطين، كانت رايات الحكومات الإسلاميَّة مشرذمة ومتفرقة ومتناطحة، وكلٌّ يغني على هَمِّهِ و مصلحته، والأدهى من ذلك أن جيوشاً إسلاميَّة فتحت الأجواء للسماح بالجيوش الأوروبيَّة لغزو فلسطين والشام فكانت مشاركة لهم في احتلال القدس!
فالتاريخ لا يعيد نفسه فحسب، بل يُصرّ أن يُدوِّن أسماء المتخاذلين والخانعين في كل زمان وفي كل موقع.
فيا أبا عبيدة، إنّ جوهر المأساة ليست في ضعف الشّعوب، بل في أنّ أنظمتنا لم تعد تُؤمن بقضايا الأمَّة، ولا تملك قرارها ولا إرادتها، فهي تحكم من الخارج وتُدار بحساباتٍ خارجيّة للقوى العظمى، فغابت عنها السيادة على قراراتها وتلاشت مفاهيم النخوة للقضايا المشتركة بين العرب، فلم تعد فلسطين في أولوياتهم، بل صارت عبئًا دبلوماسيًّا يتمنون زواله، وهكذا ضاعت القضايا لدى الشعوب المقيدة، لأنّ من لا يملك نفسه، لا يمكنه أن ينصر غيره.
ولكن.. اعلم يا أبا عبيدة.. “يا صوت العزّة في زمن الانكسار” ، أنّ هذه الدنيا لا تثبت على حال، ولا تستقر على قرار، فمن ذا الذي كان يتصور أن التتار سيُسحقون؟ أو أنّ الصليبيين سيُجلَون عن الأقصى وفلسطين؟ أو أنّ الجيوش التي مارست الطغيان ستنكسر في نهاية المطاف أمام دعوات المستضعفين، ونضال المناضلين الحقيقيين أمثالك؟
فإنّها سُنن الله أيّها القائد ، يمهل ولا يُهمل، يبتلي ثم يُمهّد، ويختبر ثم يرفع.
فاثبت، وثبّت، وذكّرنا دومًا وعاتبنا مجددًا، ولكن لا تَحسب أنّ صمتنا يعني رضا، ولا أنّ عجزنا يعني خيانة، ولا أنّ الله غافلٌ عمّا يعمل الظالمون، فَرُبَّ دعوةٍ في جوف الليل كانت أقوى من جيوش العواصم العربيَّة، ورُبَّ عتابٍ يوقظ شعبًا، ورُبَّ فكرةٍ صغيرة تُعيد للأمّة بوصلتها.
ونحن نتحمَّلُ المسؤُوليَّةَ ومسؤولون أمام الله عنكم ، وعتابك الأجل له وقعٌ في قلب كلِّ عربيّ حرٍّ، فلا تيأس أبدًا فمردّ الأمر كلِّه لله و لن يضيع الله نضالكم.





