سياسة
على وقع تصاعد الأحداث في السويداء وتصاعد الضربات الإسرائيلية، يواصل المشهد السوري تفاعلاته المعقدة بين اختراقات دبلوماسية وانهيارات أمنية. فبينما تُسجل دمشق تقدماً في ملف الاعتراف الدولي عبر تحالفات إقليمية جديدة، تُفجّر الأزمات المحلية في الجنوب تناقضات عميقة. يحاول هذا التقرير قراءة المشهد عبر طبقاته المتداخلة: من تحوّلات الدبلوماسية السورية إلى تداعيات اختبار السويداء الأمني، مروراً بصراع الشرق السوري.
تشير التحولات الدبلوماسية الإقليمية والدولية من خلال عودة العلاقات مع المغرب (المتمثلة بفتح سفارته بعد تنازل دمشق عن موقفها التاريخي حول الصحراء الغربية) وبريطانيا (بزيارة وزير خارجيتها لدمشق)، إضافة إلى زيارات الشرع لدول كالإمارات وأذربيجان، إلى الاعتراف المتصاعد بشرعية الحكومة السورية في المحافل الدولية، ونجاح البراغماتية السورية في توظيف تحولات السياسات الخارجية لتحقيق مكاسب ملموسة.
على صعيدٍ موازٍ، يكشف التنسيق الأمني (المتجسد في اللقاء الأمريكي الفرنسي بين ممثلي دمشق وقسد) عن محاولة صياغة توازنات داخلية هشة تهدف لاحتواء الصراعات الداخلية وتمهيد الطريق للاستقرار.
إقليمياً، أفرزت الأحداث الأخيرة في السويداء والضربات الإسرائيلية ردّ فعلٍ إقليمياً فريداً، تجسّد في بيانٍ مشترك خليجي عربي تركي يدين التدخلات الخارجية ويدعو لحماية السيادة السورية. جاءت هذه الوحدة الإقليمية النابعة من خشية انتقال تداعيات الاضطراب إلى دول الجوار في إطار رؤيةٍ تُحذّر من تحوّل السويداء وشرق سوريا إلى بؤرةٍ دائمة لتوليد الأزمات، وبيئةٍ حاضنة لتصعيدٍ عسكري أو اختراقات خارجية حال انهيار التوازنات الهشة.
تشكل الأحداث المتصاعدة في السويداء -خاصةً مع التدخل الإسرائيلي المُباشر- تهديداً خطيراً يتجاوز المخاوف المحلية إلى الإقليمية، إذ إن تداعياتها المُحتملة تتفرع إلى عدة مخاطر متشابكة:
هذه السيناريوهات تدعهما مؤشرات ميدانية كتصاعد خطاب الكراهية الطائفية، وتصريحات مشبوهة لتنظيمات متطرفة وأخرى لقوى محسوبة على إيران حول جاهزية التدخل.
تصاعدت التطورات الأمنية في محافظة السويداء جنوب سوريا، وزاد من حدة التصعيد التدخل الإسرائيلي وتوسيع دائرة الاستهدافات داخل البلاد، وذلك بالتزامن مع إصرار الحكومة السورية على مواصلة عملياتها لملاحقة “المجموعات الخارجة عن القانون” في السويداء، والتي اندلعت إثر اشتباكات بين مجموعات درزية وبدوية. سرعان ما تطورت هذه الاشتباكات لتشمل المواجهة بين القوات الحكومية وبعض الفصائل المحلية الموالية لزعيم الطائفة الدرزية، حكمت الهجري، الذي رفض دخول قوات الأمن طالباً حماية دولية، في موقف يعيد إلى الأذهان التدخل الإسرائيلي السابق وأحداث نيسان/ أبريل الماضي.
سعت الحكومة السورية من خلال تدخلها إلى تحقيق عدة أهداف رئيسية، على رأسها:
شكل التدخل الحكومي اختباراً حقيقياً لقدرة الحكومة على ضبط الأمن في المحافظة، غير أن التدخل الإسرائيلي، الذي جاء تحت ذرائع تأكيد التزام إسرائيل بـ “حماية دروز سوريا” وتهدئة المجتمع الدرزي داخل إسرائيل، استهدف أيضاً الحفاظ على ملف السويداء ورقة تفاوضية مهمة ضد دمشق، ما أدى عملياً إلى فقدان الحكومة نفوذها الكامل في المحافظة.
لم تتوقف المواجهات عند هذا الحد، إذ تحولت لاحقاً إلى مواجهات عشائرية بين الفصائل المحلية الدرزية، والتي اشتعلت نارها عقب انسحاب القوات الحكومية، مما يهدد بتدهور الأوضاع الأمنية في المنطقة. في ظل هذا المأزق، تبدو عودة القوات الحكومية إلى السويداء أمراً محتملاً لمواجهة الفلتان الأمني، أو ربما تدخّل أطراف إقليمية، أبرزها إسرائيل، التي قد تستغل الوضع ذريعة لإنشاء منطقة عازلة تحت سيطرتها في الجنوب السوري، ما يزيد من تعقيد المشهد ويهدد استقرار المنطقة.
صعدت إسرائيل من تدخلها العسكري في سوريا من بوابة الأحداث الأخيرة في السويداء، حيث شنت ضربات جوية غير مسبوقة استهدفت القوات السورية ومواقع سيادية، من بينها مبنى الأركان في دمشق ومحيط قصر الشعب الرئاسي. هذا التصعيد خلق واقعاً أمنياً صعباً على دمشق، دفع الحكومة والجيش السوري إلى الانسحاب من محافظة السويداء، وتسبب في توسيع الهوة بين دمشق وتل أبيب، مما يجعل مساعي التوصل إلى اتفاق سوري إسرائيلي أمام عقبات معقدة، انطلاقاً من دور السويداء المستقبلي في الجغرافيا الجنوبية لسوريا والخطط الإسرائيلية لها، مروراً بالتحديات الأمنية الداخلية التي تُغذيها إسرائيل عبر سياسة القوة المفرطة، التي تعمل على إضعاف شرعية الحكومة السورية، وسط توجس إسرائيلي من شخصية الرئيس الشرع والتشكيك في نواياه.
بالمحصلة، تعيد الأحداث الأخيرة التأكيد على أن الرؤية الإسرائيلية لسوريا تنطلق من فرضية أساسية، هي إبقاء الحكومة المركزية في دمشق ضعيفة تحت مراقبة وتحكم محدد، مع منح الدروز حكماً ذاتياً محدوداً في السويداء، لضمان عدم تحول سوريا إلى تهديد استراتيجي مباشر لإسرائيل.
في المقابل، تدرك دمشق أن التدخل الإسرائيلي المباشر، الذي تجاوز حدود التحذير بقصف الأركان ومحيط القصر الرئاسي في دمشق، ليس مجرد رسالة تحذير لتجاوز “الخطوط الحمراء” التي حددتها تل أبيب، خصوصاً فيما يتعلق بالوجود العسكري السوري في الجنوب. لذلك، فضّلت القيادة السورية عدم الانجرار إلى مواجهة مفتوحة، والتركيز على إصلاح الجبهة الداخلية وبناء مؤسسات الدولة كخيار استراتيجي لا سيما في ظل محدودية خيارات الرد العسكري المتاحة حالياً.
تتصاعد التوترات العسكرية في شرق الفرات بالتزامن مع اشتباكات السويداء، حيث نفذت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تعزيزات ضخمة في دير حافر واستعراضاً عسكرياً في الرقة يوم 15 تموز/ يوليو، رداً على اشتباكات سابقة مع الجيش السوري. في المقابل، حشدت دمشق قواتها على خطوط التماس، خوفاً من استغلال “قسد” لأزمة السويداء لشن هجمات مضادة.
يأتي هذا التصعيد رغم المفاوضات المتعثرة بين الطرفين بوساطة أمريكية، بحضور المبعوث توماس براك، حيث تتعثر تطبيقات اتفاق آذار/ مارس 2023 لأسباب عدة، منها:
ورغم تغير أولويات الداعم الأمريكي التقليدي لـ “قسد”، حيث تركز الإدارة الأمريكية الآن على تعزيز سلطة الحكومة الانتقالية في دمشق، إضافة إلى تحويل التمويل العسكري لـ “قسد” نحو إدارة معتقلات تنظيم “الدولة الإسلامية”، تبدو مقاربات الحل العسكرية صعبة للغاية، خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها السويداء. ومع ذلك، تُظهر التحركات الميدانية استعداداً لسيناريو المواجهة إذا فشلت الوساطات في كسر الجمود التفاوضي خلال الأشهر القليلة المقبلة، في مشهد يعكس استحالة فصل استقرار سوريا عن التداخلات الإقليمية والدولية.
تشكّل التطورات الأخيرة في السويداء تهديداً بنيويّاً للوحدة الوطنية عبر مستويات متداخلة: فهي لا تُعمّق الانقسامات الطائفية والإثنية فحسب، بل تُبعد المكونات المجتمعية عن السلطة المركزية، وتحوّل الأزمة إلى صراع هوياتي يُضعف النسيج الاجتماعي. كما تُقوّض مشاريع الاستقرار عبر تقويض سيطرة الحكومة على المناطق الحيوية، وتُغذّي دوّامة العنف بتوفير مبرّرات لتصعيد التوترات والتدخلات الخارجية.
وقد تجلّت تداعيات هذا الاحتقان في مرحلتين متلاحقتين:
أولاً: انفجار العنف الميداني المتمثل في انتهاكات استهدفت مدنيين وعشائر جنوب سوريا، وذلك بعد ساعاتٍ فقط من انسحاب قوات الجيش والأمن من المحافظة.
ثانياً: التصدّع الاجتماعي عبر حملات التواصل الاجتماعي التي كشفت استقطاباً مجتمعياً حادّاً، متزامناً. وقد تجلّت أولى تداعياتها في انتهاكات استهدفت مدنيين وعشائر جنوب سوريا عقب انسحاب القوات الأمنية مباشرةً، مترافقةً مع حملات تواصل اجتماعي كشفت استقطاباً مجتمعياً حادّاً. ففي الوقت الذي تروّج فيه الادعاءات الإسرائيلية بـ “حماية الدروز” وَهْمَ أمانٍ مؤقت، فإنها تنطوي على تجييش للهُوية (بتصوير المجتمع كحليفٍ لإسرائيل)، أما على صعيد هيبة الدولة، فقد كشف التناقضُ بين وعود فرض الأمن والتراجع السريع عن عجزٍ بنيوي في السيطرة، الأمر الذي أضعف مصداقية السلطة حتى لدى مؤيديها والمراقبين المحايدين.
أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع سلسلة مراسيم رئاسية تهدف إلى تحفيز الاقتصاد الوطني ودعم إعادة الإعمار، شملت إنشاء مؤسستين اقتصاديتين هما: الصندوق السيادي السوري لتنفيذ مشاريع تنموية وإنتاجية وصندوق التنمية -يركز على إعادة إعمار البنية التحتية- واستحداث منصب مدير عام لهيئة الاستثمار السورية.
تُمثل هذه المراسيم رؤيةً سياديةً لبناء الاقتصاد السوري عبر:
تُحاول دمشق عبر هذه الخطط بناءَ شرعية اقتصادية داخلية تُوازي تحولاتها السياسية، مع الحفاظ على مسافةٍ آمنةٍ من شروط المؤسسات المالية الدولية -بحسب تصريحات وزير المالية- رغم محدودية الإمكانات، تُرسي نموذجاً لـ “اقتصاد ما بعد الحرب” يراهن على السيادة والشفافية كأداةٍ لإعادة الإعمار، لكنها في الوقت ذاته تبقى رهينة تحديات جوهرية كالنجاح بجذب استثمارات موثوقة في بيئةٍ تعاني ضعف الثقة.