Blog

من “ما اختلفنا” إلى اعتذار ياخور: دراما التكويع فوق دم الثورة

يوليو 16, 2025

من “ما اختلفنا” إلى اعتذار ياخور: دراما التكويع فوق دم الثورة

لم تكن الثورة السورية ثورة كلمات، بل ثورة دم، ولم تكن نكتة ولا مشهداً عابراً في مسلسل، بل زلزالاً غيّر وجه البلد وكسر صنماً استمرّ نصف قرن، واليوم وبعد سقوط نظام الأسد البائد، لا يعود السوريون إلى بيوتهم، بل يُطلب منهم العودة إلى منازل الدراما، حيث تُعاد كتابة الحكاية بلغة الكوميديا الناعمة، ويسود منطق: نضحك لننسى.

 

لسنا هنا بصدد مراجعة فنية لمسلسل ما اختلفنا، ولا تحليل أداء من مثّلوا فيه، بل بصدد تفكيك سردية تُعاد صناعتها عبر شاشة “تلفزيون العربي” وغيرها، تحمل عنوان “سوريا الجديدة”، وتُخفي في باطنها محاولة ممنهجة لتلميع وجوه كانت حتى الأمس القريب تنطق باسم الطغيان، الممثلون الذين أطلّوا في المسلسل كانوا جزءاً من ماكينة التهليل لنظام أسد البائد المجرم، وبعضهم مجّد ماهر الأسد نفسه، واليوم يتحدثون بسخرية ناعمة عن “الحرية” و”الأحزاب” و”المعارضة”، كأنهم لم يكونوا شركاء في خنقها.

 

تماماً كما فعل باسم ياخور، الذي خرج أخيراً على شاشة “العربية” ليعتذر من السوريين، بعد سنوات من مواقفه التي جرحت أهل المخيمات شمال البلاد والمهجرين خارجها، الذين عاشوا الجوع والشتات والخذلان، اعتذاره بالنسبة لكثيرين، لم يكن مراجعة حقيقية، بل مجرّد “تكويعة” جديدة، تحاكي ما نراه في الدراما: القفز من صف الجلاد إلى صف الضحية، دون المرور بمحكمة الذاكرة أو مساءلة الضمير.

 

في هذه اللحظة، يبدو أن كل شيء يُغفر إذا جاء مغلّفاً بسخرية، أو ملفوفاً باعتذار مرتب، أو مشهد كوميدي محبوك، لكن المواقف لا تُنسى، والدم لا يُغسل بالضحك، والكرامة لا تُعاد بعبارة ناعمة على شاشة فضائية، ما نشاهده اليوم ليس حواراً وطنياً، بل إعادة توزيع للأدوار، تُقدَّم على هيئة “فن حرّ”، فيما هي في حقيقتها “تطبيع ناعم” مع رموز مرحلةٍ لم يُحاسَب أحد فيها بعد.

 

فهل هذه هي حرية التعبير؟ أم حرية التمويه والتجميل؟ وهل سنسمح بأن تتحوّل ثورة المليون شهيد إلى خلفية ضاحكة لمشهد لا يحترم جراحها، ولا أهل خيامها، ولا شهداءها الذين لم يعتذر لهم أحد؟

 

 

حين تصبح الثورة مشهداً ساخراً من انتصارها

 

يقدّم مسلسل ما اختلفنا، المعروض على شاشة “تلفزيون العربي”، تصوراً هزلياً للواقع السوري بعد سقوط نظام الأسد، لكنه يفعل ذلك بروح من السخرية التي لا تُحرّك الضحك بقدر ما تُثير الغثيان. في إحدى الحلقات تُطرح فكرة تأسيس حزب جديد، وكأنّ الحرية التي سالت من أجلها أنهار من الدماء يمكن اختزالها الآن بنكتة حول عضوية حزبية، والمفارقة الأكبر أن مؤسسي هذا الحزب في المسلسل هم من سكان مناطق كانت خاضعة تماماً لنظام الأسد قبل سقوطه، لم يُسمَع لهم صوت معارض، ولم يهتفوا يوماً للثورة، بل كانوا جزءاً من جمهور “السلطان”، وصفّقوا طويلاً لصوره وخطبه ومجازره.

 

يُقدّم هؤلاء في المسلسل وكأنهم الآن رموز المرحلة الجديدة، يضعون شروط الانتساب للحزب، وعلى رأسها “أن تكون معارضاً قديماً”! لكن “المعارضة” هنا لا تعني من حمل روحه على كفّه في المظاهرات الأولى، ولا من عاش القصف والكيماوي والنزوح، بل تعني -في منطق العمل الدرامي- من قال كلمة أو أبدى رأياً مخالفاً من خلف جدران مأمونة، وكأن المعارضة صارت وظيفة لا تضحية، أو جواز مرور لا امتحان دم.

 

بهذا المعنى، يتحوّل مسلسل ما اختلفنا إلى ورقة تبييض غير مباشرة لمرحلة شارك فيها هؤلاء بصمتهم أو بدعمهم العلني للمجرم، ويُعاد تقديمهم كجزء من المشهد الجديد عبر خطاب ساخر ناعم، لا يُسائلهم أحد عن صمتهم الطويل، ولا عن تواطئهم، بل يضحك الجمهور معهم، كأن ما سبق كان مجرّد سحابة صيف، لكنها لم تكن كذلك، بل كانت ثورة دفع فيها السوريون ثمناً لا يمكن تحويله إلى مادة ضاحكة: مليون شهيد، ومليون مغيّب، وعشرة ملايين مهجّر، ومدن أُبيدت من الوجود.

 

من هنا، لا تبدو السخرية في هذا المسلسل حرية تعبير، بل حرية تطبيع ناعمة، تعيد خلط الأوراق وتمنح البراءة بأثر رجعي، وتختزل الثورة السورية كلها في نكتة خفيفة تُقال على شاشة أنيقة.

 

 

 

باسم ياخور من بلاغة التشبيح إلى تهذيب التكويع

 

خلال سنوات الثورة السورية، لم يكن باسم ياخور مجرّد ممثلٍ موهوب ومحبوب لدى السوريين، بل كان أيضاً واحداً من أبرز الوجوه “المرنة” التي تمكّنت من الجمع بين النجاح الفني والموقف السياسي الواضح: الوقوف إلى جانب سلطة القتل، لم يكن صامتاً أو محايداً، بل صرّح في أكثر من مناسبة، وبنبرة استعلائية، ضد السوريين الذين يعيشون في الشمال وفي المخيمات، وضد الثورة التي كانت تُقاوِم قصف النظام وبراميله بالكرامة وحدها.

 

في كل منعطف، اختار ياخور أن يكون حيث يقف الكرسي، لا حيث يسقط الدم، حين كانت طائرات الأسد تحرق المدن، كان يروّج لصورة “البلد الآمن”، وحين كانت جثث المعتقلين تتراكم في صور “قيصر”، كان يعبّر عن تضامنه مع “الدولة ومؤسساتها” التي حافظت على الاستقرار، لم يكن مجرد “فنان وطني”، بل كان أحد الأصوات التي منحت النظام أياماً إضافية من الشرعية الشعبية، عبر الفن والمنصات، والتأثير الجماهيري، واليوم بعد كل ذلك، يخرج باسم ياخور عبر برنامج تلفزيوني على قناة “العربية”، ليقول إنه يعتذر ممن جرحهم، ويؤكّد أن مواقفه السابقة كانت “وجهة نظر”، وكأنّ الانحياز للقاتل لا يعدو كونه خياراً شخصياً في زمن رمادي، لا يستدعي المحاسبة، هذا الاعتذار الذي جاء متأخراً وبلا أي تبنٍ فعلي للمسؤولية، بدا لكثير من السوريين تكويعة أنيقة أكثر منه مراجعة أخلاقية حقيقية.

 

التكويع هنا لا يختلف عن ذاك الذي يُروَّج له درامياً في المسلسلات: انتقال سلس من خانة التشبيح إلى خانة الاعتدال، دون أن يمسّ أحد جوهر الجريمة، لا يسأل باسم نفسه: كم كلمة قلتها من قبل جرحت بها أماً ثكلى؟ كم تصريحاً منح نظام الأسد تماسكاً معنوياً في أصعب لحظاته؟ كم مرة نطقت ضد من كان يعيش في الخيمة، أو يكتب من المنفى؟

 

المؤلم أن هذه “التكويعة” لا تأتي من فنانٍ بسيط، بل من شخص له قاعدة شعبية كبيرة، وكان بمقدوره أن يكون صوتاً مختلفاً، لكنه اختار أن يكون صدى للسلطة، والآن حين تغيّر المشهد، يريد أن يعود إلى وجدان الناس من باب الندم، دون أن يفتح جراحاً قديمة أو يعتذر بصدق لمن خذلهم علناً.

باسم ياخور ليس حالة فردية، بل نموذجاً لمرحلة كاملة من التشبيح الذي يطلب الغفران دون حساب، ويعود إلى المسرح دون المرور من بوابة الحقيقة، وبين تصريحاته القديمة واعتذاره الأخير، تقع هوة لا يردمها الكلام، بل يحتاج إلى موقف حقيقي واضح، يعترف فيه لا فقط بالخطأ، بل بأثره العميق، وبثمنه الذي لم يدفعه هو، بل دفعه غيره من دم ولحم.

 

 

التكويع ضرورة المرحلة القادمة في مسلسل ما اختلفنا

 

في حلقة “التكويع ضرورة المرحلة القادمة” من مسلسل ما اختلفنا، لا نشاهد نقداً ساخراً بقدر ما نرى محاولة مموّهة لتقديم التكويع كموقف عقلاني وضروري بعد سقوط النظام، فجأة يصبح من صمتوا على الكيماوي، وصفقوا للبراميل، شركاء في مستقبل الثورة بل وقادتها، دون محاسبة أو مساءلة، وكأن الولاء السابق للأسد كان مجرّد “مرحلة” وانتهت.

 

المؤلم أن الخطاب يُطالب المهجّرين والجوعى في خيام الشمال بقبول هؤلاء جزءاً من المشهد الجديد، متناسياً أن هناك من دفع حياته ثمناً لرفضهم، ولم “يُكَوّعوا” رغم القتل والتجويع، المسلسل يعيد تدوير وجوه التواطؤ، ويختزل الثورة في مشهد كوميدي على لسان “مكوّع” بليغ، وكأن كل التضحيات كانت سوء فهم، والدماء تفاصيل ثانوية.

 

لسنا ضد المصالحة، لكننا نرفض أن تصبح التكويعة وسيلة لصنع رموز كاذبة، لا يمكن لمن خذل الثورة بالأمس أن يتصدّر مشهدها اليوم، ولا لمن سكت على القتل أن يُمنح صكّ شرف بالكوميديا، ما نراه ليس فناً حراً، بل تطبيعاً ناعماً مع الخيانة، وتسويقاً لها بعبارات ناعمة على شاشات المنفى.

الثورة ليست دوراً يُؤدى حين يتبدّل المشهد، بل موقف أخلاقي دفع فيه الناس أثماناً باهظة: جوعاً، سجناً، ونزوحاً، لا يمكن مساواة من سكن الخيمة بمن صمت في القصر.

 

نريد فناً صادقاً لا يُساير القتَلة، بل يُنصف الضحايا، ويشبه الذين أضاؤوا لنا الطريق بدمهم، لا من لحقوا الضوء متأخرين.

شارك