أدب
رحلت المؤرخة بيان نويهض الحوت يوم السبت 12 يوليو/تموز 2025، عن عمر ناهز 88 عامًا. كتبَت السيدة بيان عديدًا من الكتب المهمة مثل: “القيادات والمؤسسات السياسية في قلب فلسطين 1917-1948” وحررت كتاب بعنوان “وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية” وكتاب “الشيخ المجاهد عز الدين القسام في تاريخ فلسطين”، ووثقت مجزرة صبرا وشاتيلا من خلال كتابها “صبرا وشاتيلا أيلول 1982“، وبذلَت في ذلك جهدًا كبيرًا.
كنت حريصا على ظهورها في فيلم وثائقي من برنامج مذكرات عن زوجها شفيق الحوت، وتعذر ذلك بسبب مرضها، وظهر ابنها هادر، وظهر الفيلم الوثائقي عن المناضل شفيق الحوت، يذكر الصديق خليفة آل محمود جهودها في هذا الكتاب بقوله: “استطاعت السيدة (بيان نويهض الحوت) توثيق مجزرة صبرا وشاتيلا من خلال كتابها، وبذلَت جهدًا كبيرًا جدًّا استمر ما يقارب عشرين عامًا. 802 صفحة من القطع الكبير، توثيق شهادات الناجين من الموت وأهالي الضحايا، والبحث في كل التقارير والأخبار التي تناولت الموضوع. سجَّلَت 140 مقابلة، منها 119 في العامَين التاليين مباشرة على الحدث، وأجْرَت دراسة ميدانية وزَّعَت فيها 450 استمارة على أهل الضحايا، و100 على أهل المخطوفين والمفقودين. دوَّنَت من خلال مخطوطات غير منشورة ليوميات الغزو الإسرائيلي لبيروت، ورصدت التقارير الرسمية والصحفية والتليفزيونية والمقالات والكتب التي تناولت الموضوع، واستعانت بعدسات الصحفيين الأجانب لنقل الصورة. امرأة قامت بعمل لا تقوم به مؤسسات، تستحقُّ شُكرًا من الإنسانية على هذا الجهد والتوثيق”.
حياة من الوفاء.. قصة بيان مع مذكرات والدها
اعتنت بيان الحوت كذلك بتراث والدها المؤرخ عجاج نويهض (أبو خلدون)، وأخرجت كتبه مثل “رجال من فلسطين كما عرفتهم“، وحررت “أحاديث ومراسلات عجاج نويهض.. الحركة العربية 1905–1935“، وبجهدها خرجت مذكرات والدها بعنوان “ستون عامًا مع القافلة العربية“. ومن الطريف ذكر قصة من قصص وفاء الابنة مع تراث والدها، وهي التي كانت تدرك قيمة تجربته وأهميتها، لذلك ألحَّت عليه ليكتب مذكراته، لكنه لم يكُن يتحمس لهذا الطلب. وأُصيب والدها بعارضٍ صحيٍّ نَجَمَ عن ارتفاعٍ مفاجئ ٍفي ضغط الدم، في التاسع عشر من يونيو/حزيران 1979، الأمر الذي أدى إلى حرمانه من القدرة على المشي والحركة بشكلٍ عاديٍّ، فاعتصم الوالد بإيمانه، والتجأ إلى أوفى أصدقائه، إلى الكتاب.
وعاش منذ ذلك اليوم ثلاثة أعوام على سريره، وهو يمضي وقته في المطالعة، والحديث مع الضيوف والأصدقاء. وحاولَت الابنة أن تُقنِعه بأن يُملي عليها مذكراته، ولم يوافق، ومَرَّ عام كامل قبل أن يقتنع بالفكرة، وكان ذلك في شتاء 1980، حيث قال لها فجأة ذات يوم أحد وهي تزوره في الجبل، في رأس المتن: “ألم تطلبي مني مرارًا أن أُملي عليك مذكراتي؟”، وأردف والدها وهو يبتسم: “إني مُستعدٌّ لذلك في الربيع المقبل حينما أنزل إلى بيروت عند شقيقتك نورا، وهناك سأتحدث إلى أن تقولي لي: انتهت المهمة”.
حضر والدها إلى بيروت وامتثل لسلسلة من اللقاءات المطولة، وكان كريمًا في الحديث، رَحْبَ الصدر لكل سؤال، وكانت ابنته تُفضِّل أن تَدَعه على سجيته، حتى لو استرسل في ذكريات جانبية، أو لاحقة زمنيًّا للمرحلة التي يتحدث عنها، وكانت تبدو بسؤال وتتحاشى مقاطعته إلا عند الضرورة، وعند مطالعتها للمذكرات للتحرير عادت إليه مرة ثانية في جولة أُخرى مع جعبة جديدة من الأسئلة لملء الثغرات، فضلًا عن تحمُّس والدها أن يكتب عدة موضوعات بخط يده ساردًا ذكريات أثيرة لديه، ثم أعادت الابنة المؤرخة ترتيب ذلك وفقًا للتسلسل التاريخي، في شكل موضوعات مختلفة.
سجلت بيان صوت والدها في أواخر أيامه على أشرطة كاسيت لتكتب ذكرياته، وبلغت تلك الشرائط خمسة وأربعين شريطًا، ثم نقلتها إلى النَّص المخطوط وبوَّبته وأخرجته، مع ما يعنيه ذلك من فرز مئات الصفحات من أوراقه ومقالاته وإضافة الحواشي والشروحات. وقد توقف والدها عجاج نويهض في سرد قصة حياته عند لحظة النكبة عام 1948، ولم يُعطِها سببًا واضحًا لتوقفه عن سرد حياته عند هذا الحدث المفصلي. ولعل السبب أن هذا الحدث زلزال على المستوى الشخصي يتوقف التاريخ عنده. وقد سمعت المؤرخ عصام نصار يذكر تجربته في الاطلاع على الألبومات العائلية الفلسطينية وذكر توقف كثير من ألبومات الصور الشخصية عند لحظة النكبة، بسبب الشتات الفلسطيني وحياة اللجوء، وهكذا تتوقف صور عديد من الأُسَر عند هذا العام القاسي.
من الصفحات الجميلة والرقيقة في مذكرات والدها قصة زيارة أمير البيان شكيب أرسلان للقدس، فهي ذكرى عزيزة على والدها، وقد كتبها بنفسه وقال لها: “هذه أَحَبُّ الصفحات إلى نفسي”، وأكثر شيء حزن عليه والدها هي الأوراق التي سطا عليها الصهاينة والتي تتضمن مراسلاته الممتعة مع شكيب أرسلان، فقد كان يحلو للأمير أن ينام القيلولة في منزل والدها عجاج نويهض، كل هذا يَدُلُّك على أنها عائلة لها تاريخ عريق في النضال وحُب الأمة العربية والدفاع عنها.
بين الوطن والمنفى.. بيان وزوجها شفيق الحوت
تستمر رحلة الوفاء بين المؤرخة وزوجها المناضل الفلسطيني ابن يافا شفيق الحوت، فقد تعرفتُ إلى السيدة بيان نويهض عن قرب وأنا أطالع مذكرات زوجها المناضل، وهي تصفه وهو يكتب.
تصف بيان نويهض زوجها وهو يكتب مذكراته “بين الوطن والمنفى.. من يافا بدأ المشوار” وتقول عنه: “كم كانت فرحتي كبيرة عندما أمسك بالقلم وابتدأ يكتب مذكراته، وهو مِن عادته أن يكتب بأناقة، فإن أراد شطب فقرة أو تعديلها يرفض تشويه الورقة بالأسطر اللاغية أو بالمحو، بل يبدأ حالًا بالكتابة على ورقة بيضاء من جديد، فهو من أعداء ما يُعرف بالمسوَّدة.
أمَّا الكومبيوتر فكان أيضًا من أعدائه ويرفض التعامل معه، لكنه مع الأيام أصبح ودودًا تجاهه، خصوصًا بعد أن تعايش مع حسناته، وأنا من كان ساعي البريد بينهما، أي السكرتيرة الطابعة.
كنت أسحب الورقة بعد أن ينتهي من كتابتها من دون أن يشعر، ثم أذهب لطباعتها بهدوء فيما هو مستمر في الكتابة، وكانت ساعات الليل الهادئة هي الأفضل.
ومَرَّ عام وأكثر وهو يكتب، وكان ذلك العام هو الأجمل في حياتي مع رجل عشت معه عمري، غير أنني في ذلك العام عشت معه عمره، عرفته في سويعات أحاديثنا عن هذه الصفحة أو تلك الفقرة أو ذلك العنوان أكثر مما عرفته عبر عشرات السنوات، فمذكراته ليست مجرد أحداث وآراء ومواقف، بل هي مرآة للمشاعر وبوح من الأعماق، وهي تجليات الفكر في أتون نضال لا يهدأ، حتى لو هدأ.
وأما الأروع في مذكراته فهو ما اكتشفته بعد أن صدرت في كتاب، وأنا مَن كنت أعلم حق العلم وأنا أطبع كل صفحة بخط يده بأنها مذكرات عن تجربة عمر في النضال، عن جيل وثورة، عن شعب ما بين وطن ومنفى، غير أنني وأنا أقرؤها بين دفتَي كتاب رُحت أقرأ ما بين السطور كأنني أقرأ هذه الصفحات أول مرة، ورُحت أشاهد ما وراء الاجتماعات والنقاشات والخلوات، وهكذا عرفت شفيق الحوت أكثر، أو ربما علَيَّ أن أقول إنني أصبحت على يقين أكثر مما عرفته عبر تراكم السنوات وتداعي الذكريات.
هو ذلك الإنسان المناضل الصادق، والمؤرخ العادل، وصاحب الكلمة النابعة من العقل والوجدان، مهما تتغير الأزمان. لم يعتبرها مذكراته الخاصة، ولم يجعل منها منبرًا للرد على من أساء يومًا إليه، ولم يذكر شيئًا عن الذين حاولوا الوقوف عثرة في طريقه في أي مرحلة من حياته”.
انتهى وصف السيدة بيان لزوجها، وكيف رأت مذكراته وتجربته.
لحظة سقوط بيروت عام 1982 وتحقيق الضابط الإسرائيلي معها
مِن القصص المهمة التي علقت في ذهني حينما قرأت مذكرات شفيق الحوت، لحظة سقوط لبنان عام 1982، ووصف وصول القوات الإسرائيلية إلى قلب بيروت. كاد زوجها شفيق الحوت أن يتمزق وهو في مخبأه خوفًا على زوجته بيان، وهو لا يعلم ماذا يجري مع زوجته، فقد كان صيدًا ثمينًا للقوات الإسرائيلية، وفي وسط هذا الجنون التقى الحوت مع زوجته خارج منزلهما، فالعودة إلى المنزل كانت مغامرة غير مضمونة.
كان قد مضى على زواجهما نحو عشرين عامًا، لكن قلبه خفق في تلك اللحظة كما لم يخفق من قبل، كانا كمن يلتقيان أول مرة، وكأنّ عمرًا قد مضى على أول لقاء، وكانا كطفلين لديهما رغبة في البكاء، لكن لم يفعلا، فلقد أصبح الصمود أبرز صفاتهما، وهو ما يتطلب التعالي فوق الجرح، ورفض القهر أو الاعتراف بالهزيمة.
حدَّثته زوجته بيان عن يوم زيارة الضابط الإسرائيلي للمنزل بحثًا عنه، فقالت والدمع يجد مجراه في القلب لا بين الجفون: “حدث ذلك يوم الجمعة الواقع فيه 17 سبتمبر/أيلول. لقد علمت بوصولهم قبل أن يدقوا على الباب، مِن وَقْع أقدامهم والضجيج الذي أثاروه وَهُم ينتقلون من طبقة إلى طبقة عرفت أنهم قادمون… طرقوا الباب بعنف، كانوا أربعة بقيادة ضابط، مدججين بالسلاح كأنهم يتوقعون معركة لحظتئذ. ولا أدري لماذا وكيف انزاح عن صدري كل إحساس بالخوف.
«هل هذا منزل شفيق الحوت؟»، سأل الضابط، فلمّا أجبته بـ«نعم» كان والثلاثة أصبحوا داخل البيت.
– أين هو؟
– إنه ليس هنا. غادر منذ أيام.
– أهكذا هُم رجالكم؟ يهربون ويتركون نساءهم وراءهم؟
– رجالنا لا يهربون، وأنت تعرف ذلك، والعالم كله يعرف ذلك، وشاهد خروجهم وَهُم يرفعون شارات النصر.
– إلى أين ذهب زوجك؟
– لا أعرف بالضبط، لكنه قال إنه سيتوجَّه إلى الولايات المتحدة.
– الولايات المتحدة؟
– أقصد نيويورك، حيث الأمم المتحدة.
– أتظنين أن في استطاعتنا أن نجتمع به في نيويورك؟
– وأنت تلبس هذا الزي وتحمل هذا السلاح؟ لا أظن أن ذلك ممكن”.
وفي أثناء الاستجواب كان الثلاثة يقلبون المنزل بحثًا عن شفيق الحوت وعما يمكن أن يكون له قيمة من أوراق ووثائق. وتضيف زوجته بيان: «وجاء أحد الجنود يحمل ملفًا ويشير إلى الضابط بلهفة كأنه عثر على كنز. تناول الضابط الملف وتصفَّح ما فيه.
– ما هذه اللوائح؟ هل هي أسماء مخربين؟
– يبدو أنك تعرف العربية، فلماذا لا تقرأ ما هو مكتوب؟ على كل حال، ما بين يديك هو لائحة بأسماء من قد تعتبرهم مخربين، لكن لا أعتقد أن بين هذه الأسماء من لا يزال على قيد الحياة. إنهم أعضاء المؤتمر الفلسطيني الذي انعقد سنة 1927.
– هل تسمحين لي بالتفتيش؟
وكأن رجاله لم يكونوا يفعلون شيئًا!
– وهل أستطيع أن أمنعك؟
ثم قام واتجه أول ما اتجه إلى المكتبة، وبدأ يقلب ما بين رفوفها. وكان أول كتاب وقعت يده عليه «بروتوكولات حكماء صهيون». وما إن رآه حتى قال بغضب: «هذا كتاب سيئ، وسأصادره».
– لقد قلت لك إني أعمل أستاذة في الجامعة اللبنانية، وإن مادة تخصصي هي العلوم السياسية، وليس عند من كان مثلي ما يمكن تسميته بالكتاب السيئ أو الكتاب الجيد، واجبي يفرض علَيّ قراءة واقتناء كل كتاب يهمّ تخصصي، وإذا كان رأيك في هذا الكتاب كما ذكرت، فسأُريك كتبًا أخرى أعتبرها أنا سيئة.
وأخرجت له عددًا من الكتب لمؤلفين إسرائيليين.
رد الضابط: «مع ذلك سأصادر هذا الكتاب»!
– إنّ هذا الكتاب هو هدية والدي إليّ، وفي استطاعتك أن تقرأ الإهداء، وهو يعني لي كثيرًا.
ولمّا تأكد أعاد الكتاب إلى مكانه، وأنا لا أدري إن كان يجهل أو يتجاهل أن والدي هو واضع ومؤلف ذلك الكتاب”.
سرق الصهاينة جواز سفر شفيق الحوت الفلسطيني الذي حصل عليه في يافا قبل النكبة، وبكت وهي تحكي القصة لزوجها لأنها تعرف مدى تعلُّقه بهذا الجواز الذي كان يتباهى به بين أصدقائه، وما نسيَت رقمه في حياته.
واستأنف الضابط الاسرائيلي تفتيش المنزل، حتى وقعت عيناه على كتابها «المؤسسات والقيادات الفلسطينية 1917-1948»، وسألها إن كان في استطاعته أن يأخذ نسخة. إنه لا يصادرها، لكنه يريد قراءة الكتاب وسيرسل ثمنه بالبريد! فقالت له: “مرة أخرى أقول لك إنك قادر على أخذ ما تريد. لكن ما يثير دهشتي هو أنك تطلب مني نسخة من هذا الكتاب، مع العلم أنك صادرت أكثر من مئتَي نسخة منه كان زوجي يحفظها لي في مكتب المنظمة. على كل حال، أنا لا أبيع كتبي في منزلي، ولا أريد مع ذلك ثمن هذا الكتاب”. وأخذه.
هذه الأسئلة التي وثقها شفيق الحوت وأجوبة زوجته يعتبرها المؤرخ وجيه كوثراني نوعًا من أنواع التاريخ الشخصي، الذي لا يقلُّ أهمية عن التاريخ الرسمي أو التاريخ العام، إنه التاريخ المعيش والغنيّ والمعبِّر عن حياة الناس العاديين.
هذه القصص تُظهِر وتدلُّ على ما تعرَّضَت له هذه الأسرة من نضال ودفاع عن فلسطين بكل الطرق، إذ حاولت إسرائيل اغتيال شفيق الحوت كثيرًا، وقد ساعدت السيدة بيان زوجها في النضال من أجل بلده ومن أجل استرداد حقوقهم، وكتبَت عديدًا من الكتب التاريخية التي باتت مراجع لأي طالب علم ومعرفة. تُلخِّص بيان نويهض حياتها بالقول: “نحن نُقاتل دائمًا، وبشتى الوسائل: عسكريًّا، سياسيًّا، واجتماعيًّا، واقتصاديًّا، حتى نعود إلى وطننا فلسطين”. رحمها الله.