Blog
تتوقف نزاهة وشفافية أي عملية انتخابية على الكثير من المعايير التي أصبحت مُتعارَف عليها عالميًا، ومن خلال درجة توافرها يتم تصنيف وترتيب تلك العملية وذلك استنادًا إلى مؤشراتٍ ترتبط بالتشريعات المنظمة، والإجراءات التنفيذية المتبعة، وأداء الجهات والمؤسسات المسؤولة عن تنظيم الانتخابات، وتلك المسؤولة عن الرقابة عليها، بالإضافة إلى المناخ العام، السياسيّ والإعلاميّ على وجه الخصوص، وأداء وفاعلية القوى السياسيَّة في السلطة والمعارضة والمستقلين، وأخيرًا وهو الأهمّ -ويأتي كمحصلة لما سبق- مدى ثقة الناخبين في مصداقية وجدوى الانتخابات ودرجة إقبالهم على المشاركة فيها ونظرتهم لنتائجها باعتبارها تعكس إرادتهم الحقيقية.
ومن بين كلّ عناصر العملية الانتخابية نتناول في هذا المقال النظام الانتخابي باعتباره أحد أهمّ الأسس التي تحكم طبيعة ونتائج الانتخابات، ونحن نعيش اليوم مثالًا شديد الوضوح والتردي، حيث تجري انتخابات مجلس الشيوخ بعيدًا عن اهتمام المواطنين أو انتظارهم لنتائجها المعروفة لديهم سلفًا وقبل أن تجري عملية الاقتراع، وذلك بعدما فاز بالتزكية بثلث المقاعد تَحالُف السلطة وبعض المرضي عنهم ممّن يسمون بالمعارضة دون سندٍ أو دليل، ولأسبابٍ معروفة وأدوار وظيفية يؤدونها (هذا موضوع نعود له لاحقًا بالتفصيل)، وإذا كان هذا الثلث المخصص للقوائم المغلقة المطلقة قد حُسِم بالفعل دون منافسة من الأساس فإنّ طبيعة المنافسة على الثلث الثاني المخصص للمقاعد الفردية سوف تختلف في الشكل وتتفق من حيث النتائج مع المضمون، أما الثلث الأخير والذي يعينه رئيس الجمهورية فإنّ المنتظر فيه لن يختلف هو الآخر عما جرى عليه الأمر في المجلس المنتهية مدته.
ولا شك أنّ هذا المشهد البائس لانتخابات مجلس الشيوخ يأتي نتيجة لمجمل أداء عناصر العملية الانتخابيَّة، ومنها الأخذ بنظام انتخابي يُعين فيه رئيس الجمهورية ثلث النواب ويأتي الثلث الثاني بالتزكية (شبه تعيين)، والثلث الأخير في دوائر الفردي الكبيرة والمتسعة بالشكل الذي يعظم من دور المال السياسيِّ والتدخل الأمنيِّ، وبالأخصِّ في ظلِّ الأداء الْمُتَعَارَفِ عليه والمعتاد من أجهزة ومؤسسات الدولة التي عادت من حيثُ العناوين الرئيسية بعد ٣٠ يونيو إلى سيرتها الأولى قبل ٢٥ يناير، مع زيادة درجة السُّوءِ على مستوى التفاصيل وطريقة التنفيذ بشكل أعلى بكثير.
وعلى تعدد وتنوع النّظم الانتخابيَّة فإنَّ أكثرها انتشارًا في انتخابات المجالس النيابيَّة والمحلية هو النظام الفردي، ونظام القائمة النسبية (المفتوحة أو المغلقة)، والنظام الذي يمزج بينهما بنسب متفاوتة بحثًا عن الاستفادة من مزايا كلّ منهما، فالنظام الفردي يفترض أنَّه يزيد من ارتباط المرشح ومن ثَمَّ النائب بالناخب ومعه السعي لكسب رضاه، لكن ذلك لا يخلو من عيوب أهمها تغليب الاعتبارات الشخصيَّة في الاختيار على حساب الاعتبارات السياسيَّة والعامة، وعدم تمثيل الأصوات التي لم تفز بالأغلبية المطلقة حتى لو كانت ٥٠ بالمائة ناقص صوت واحد، أما نظام القوائم النِّسبيَّة فإنَّ أهمَّ مميزاته التمثيل العادل والمتوازن للقوى السياسيَّة والاجتماعيَّة وصناعة مجالس تشريعيَّة ومحلية تتمتع بالكفاءة والحيوية وتنشيط وتحسين البيئة السياسيَّة والحياة الحزبيِّة، غير أنَّ أكثر ما يُؤخَذ عليه ضعف الرابطة بين المنتخَبين والناخبين.
وإذا كان من الطبيعي أن يكون لكلِّ نظام انتخابي مميزات يجب العمل على زيادتها وتعزيزها وعيوب تحاول الدول الديمقراطية بالتَّجربةِ والقياس حصارها وتقليلها، فإنَّ غير الطبيعي والمعيب والمُستنكَر أن يأخذ النظام الانتخابيَّ في بلدنا بالقائمة المغلقة المطلقة التي لم تعد موجودة إلَّا في عدد محدود جدًّا من الدول، والتي تجمع بين عيوب النظام الفردي وعيوب نظام القائمة النِّسبيَّة وكذلك تهدر مميزات النظامين، ولا تفيد سوى تعزيز السلطة الفرديَّة بإضعاف السلطة التشريعيَّة وتدمير الحياة السياسيَّة بما لذلك من نتائج كارثية على حقوق المواطنين ومصالح الوطن، ومستقبلًا على استقرار النظام السياسيِّ نفسه عندما تيأس الشعوب من الإصلاح من خلال الآليات الديمقراطيَّة فتبحث عن التغيير من خارجها.





