سياسة
لم تكن حادثة الخطف التي نفذتها مجموعة مسلحة درزية ليلة السبت، والتي طالت 10 شبان من أبناء عشائر البدو في حي المقوس، ولا عملية الرد العشائرية المقابلة التي تمثّلت باختطاف 14 شاباً من الطائفة الدرزية، هي الشرارة الأولى التي أشعلت المعارك الدامية الأخيرة في محافظة السويداء جنوب سوريا، بل جاءت هذه المواجهات الدموية تتويجاً لسلسلة من الاعتداءات وحوادث الخطف والقتل المتصاعدة التي تشهدها المحافظة منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
ففي ظل غياب سلطة مركزية فعالة، وتصاعد التوترات بين مكونات المنطقة، باتت السويداء ساحة مفتوحة لصدامات متكررة، يغذيها تراكم تاريخي من الاحتكاكات المجتمعية بين عشائر البدو وفصائل درزية محلية، على رأسها “المجلس العسكري في السويداء” الذي يضم فصائل مسلحة تتلقى تعليماتها الروحية والسياسية من الشيخ حكمت الهجري، المرجعية الدينية الأبرز في المحافظة.
رواية أخرى من ليلة الجمعة سبقت المواجهات الكبرى، تحدثت عن اعتداء مسلح على أحد تجار الخضار من أبناء السويداء أثناء عودته من دمشق، حيث أُنزل بالقوة من مركبته على الطريق الدولي، وتعرض للضرب والإهانة بشعارات طائفية قبل سرقة شاحنته المحملة بـ5 أطنان من الخضار، ثم أُلقي في منطقة وعرة بعد تعذيبه، على بعد 5 كيلومترات من الطريق الرئيسي.
هاتان الحادثتان فاقمتا التوتر، وأطلقتا شرارة اشتباكات عنيفة اندلعت الأحد في حي المقوس بين مجموعات مسلحة من أبناء العشائر، وفصائل درزية، وأسفرت عن عشرات القتلى والجرحى، بينهم مدنيون، نتيجة استخدام الأسلحة المتوسطة وقذائف الهاون داخل الأحياء السكنية.
وزارة الدفاع السورية تدخلت بإرسال تعزيزات عسكرية إلى المحافظة، بهدف احتواء الفوضى، وضبط السلاح العشوائي الخارج عن سيطرة الدولة. إلا أن إحدى المجموعات المسلحة، التي وصفتها الوزارة بأنها “خارجة عن القانون”، نصبت كميناً لقواتها في منطقة المزرعة بريف السويداء، ما أدى إلى مقتل 18 عنصراً، ما أشعل جولة جديدة من الاشتباكات بين القوات الحكومية والفصائل المسلحة المحلية، خلفت حتى الآن نحو 60 قتيلاً وأكثر من 270 مصاباً، ودفعت أعداداً من العائلات الدرزية والبدوية إلى النزوح المؤقت.
في خضم هذه الفوضى، استهدفت غارة جوية إسرائيلية تجمعاً أمنياً للقوات السورية في منطقة المزرعة، ما أدى إلى مقتل عنصر من الأمن وجرح اثنين، بينما أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن تدمير دبابة تابعة للجيش السوري قال إنها اقتربت من المنطقة العازلة، ما أضفى بعداً إقليمياً جديداً على المشهد.
ورغم مرور نحو 8 أشهر على سقوط النظام، لم تندمج الفصائل الدرزية الفاعلة في السويداء، في مؤسسات الدولة الجديدة، رغم جولات تفاوض جمعت الحكومة السورية الجديدة بعدد من مشايخ الطائفة، بينهم الشيخ ليث البلعوس والشيخ يوسف الحناوي والشيخ يوسف الجربوع. ويواصل الشيخ حكمت الهجري اتخاذ موقف رافض للاعتراف بشرعية السلطة، مطالباً مراراً بتدخل دولي لحماية الدروز مما يسميه “العصابات التكفيرية”.
محاولات الحكومة السورية لفرض سلطة مدنية شهدت انتكاسات كذلك، إذ تعرض محافظ السويداء الدكتور مصطفى بكور، وهو شخصية مدنية من مدينة معرة النعمان تم تعيينه في شباط/ فبراير 2025، للاعتداء والضرب على يد مجموعة مسلحة درزية تتبع للمجلس العسكري في أيار/ مايو الماضي، ما دفعه إلى تقديم استقالته قبل أن يعود لاحقاً إلى منصبه.
كل هذه التطورات تؤكد، كما أشار الصحفي والباحث السوري خالد أبو صلاح، لـ “سطور، أن الاشتباكات الأخيرة ليست طارئة ولا معزولة عن سياق سياسي وأمني معقد. إنها، بتعبيره، إحدى تجليات الفراغ السياسي الخطير الذي خلّفه انهيار السلطة المركزية، وسط تراجع الدور المؤسسي للدولة، وتنامي نفوذ الجماعات المحلية المسلحة، وغياب مشروع وطني موحّد قادر على إدارة مرحلة ما بعد الأسد.
يرى أبو صلاح أن الاشتباكات الأخيرة التي اندلعت في محافظة السويداء، بين مجموعات مسلحة من أبناء الطائفة الدرزية وأخرى من أبناء العشائر البدوية، لم تكن وليدة اللحظة أو نتيجة طارئة، بل جاءت في سياق تراكمي طويل، له جذوره التاريخية والاجتماعية والسياسية، ويتغذى على تعقيدات بنيوية مزمنة عمّقتها سنوات الحرب السورية.
ويشير أبو صلاح إلى أن هذه الاشتباكات، رغم دمويتها واتساع نطاقها، لا تمثّل حالة استثنائية في الجنوب السوري، بل تندرج ضمن نمط متكرر من المواجهات المسلحة، التي اندلعت سابقاً في فترات متفرقة بين المكونات الاجتماعية المتجاورة جغرافياً في المنطقة. ويوضح: “ما نشهده اليوم ليس غريباً عن السياق العام في الجنوب السوري. التوترات والاشتباكات بين سكان جبل العرب من الدروز، والعشائر البدوية القاطنة في البادية والمناطق المحيطة، هي حالة عرفناها منذ عقود، وربما منذ قرون. هناك تاريخ طويل من الحساسيات المتبادلة، التي كثيراً ما اتخذت طابعاً دموياً، خاصة في مناطق التماس الجغرافي والاجتماعي، مثل ملح، وبراق، ومدينة شهبا، وغيرها”.
ويرى أبو صلاح أن الحديث عن هذه الاشتباكات كصراع بين عشيرتين أو مكونين فحسب، يُبَسّط المأساة ويغفل الجذور الأعمق. “هذا النوع من العنف لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق الذي صنعه النظام السوري المخلوع على مدى عقود. إذ استخدم النظام هذه التوترات المجتمعية، وسعى دائماً إلى تغذيتها واستثمارها ضمن استراتيجيات (فرّق تسد)، بحيث يضمن بقاء الولاءات مشتتة، والاصطفافات مناطقية أو طائفية، ويمنع تشكّل أي كتلة موحدة ذات مطالب سياسية”.
ويتابع: “النظام المخلوع لم يكن مجرد طرف سلبي يراقب. كان نشطاً في خلق وكلاء محليين داخل كل مكون، سواء من شيوخ العشائر أو زعامات درزية، وجعل من هؤلاء أذرعاً له لضبط المجتمعات المحلية، أو لإشعال فتيل الفوضى عند الحاجة. وبالتالي فإن الاشتباكات الأخيرة ليست فقط نتاج فراغ أمني بعد سقوطه، بل أيضاً نتاج تركة من التلاعب الأمني والمجتمعي الذي مارسه لعقود”.
يؤكد أبو صلاح أن ما جعل الاشتباكات الأخيرة أكثر حدة واتساعاً، هو غياب الدولة المركزية بعد انهيار مؤسسات النظام الأمنية والإدارية في السويداء. إذ يقول: “مع سقوط النظام في السويداء، لم تكن هناك سلطة بديلة جاهزة. لا يوجد جسم سياسي أو أمني انتقالي متوافق عليه، ولا قيادة موحدة تمثل إرادة أبناء الجبل، ولا حتى اتفاق على آليات الضبط المجتمعي. وهنا بدأنا نرى كيف يتحول الفراغ إلى حالة من السيولة، حيث تُملأ الساحة بقوى أمر واقع، ومجموعات محلية مسلحة، وبعضها يعمل وفق مصالح خاصة، أو يرتبط بأجندات خارجية أو داخلية خفية”.
ويحذر من أن هذا الفراغ، مع استمرار وجود السلاح خارج إطار الدولة أو المؤسسات، يفتح الباب لتصاعد الصراع الأهلي: “عندما يكون السلاح متاحاً، والسلطة غائبة، والمرجعيات متنازعة، فإن احتمالات الانزلاق إلى صراع داخلي تصبح أعلى بكثير. نحن لا نتحدث فقط عن اشتباك عسكري، بل عن تفكك اجتماعي، وعودة لمفاهيم الثأر والانتماءات الضيقة، وهذا أخطر ما يمكن أن يحدث في محافظة ذات خصوصية كبرى مثل السويداء”.
ويُلفت أبو صلاح إلى أن المشكلة لا تكمن فقط في الصراع مع المكونات المجاورة، بل أيضاً في الداخل الدرزي نفسه، حيث تعاني السويداء من تعدد القوى المحلية وتضارب المرجعيات. ويقول: “لدينا اليوم خليط معقد من اللاعبين في السويداء: هناك مرجعيات دينية مثل الشيخ حكمت الهجري الذي يحظى بقبول واسع، لكنه لا يدير مؤسسة سياسية. وهناك مجموعات مسلحة محلية، بعضها نشأ للدفاع عن المدينة ضد التهديدات الأمنية كالعصابات والخطف، لكنه تحوّل لاحقاً إلى قوى أمر واقع. وهناك نشطاء مدنيون يسعون لإرساء مشروع حكم محلي ديمقراطي، لكنهم يفتقرون إلى القوة المادية”.
ويضيف: “كل هذه الأطراف تعمل بمعزل عن الأخرى، ودون خطة وطنية أو مشروع سياسي موحد. وهذا الانقسام يجعل من الصعب إنتاج سلطة انتقالية في المحافظة تكون قادرة على ضبط الأمن، أو إدارة الحياة اليومية، أو حتى تمثيل أبناء الجبل سياسيًا على المستوى الوطني”.
في قراءة للعوامل الخارجية، يرى أبو صلاح أن الجنوب السوري، ولا سيما السويداء، بات منطقة تتقاطع فيها المصالح الإقليمية، ويأتي في مقدمتها إسرائيل، التي تتابع الوضع عن كثب، وتتحرك بشكل غير مباشر: “إسرائيل معنية جداً بما يحدث في الجنوب، ليس فقط من باب أمن حدودها، بل من منظور أوسع، يتعلق بتوازن القوى في سوريا ما بعد الأسد. هي لا تريد وجود مليشيات إيرانية، لكنها أيضاً لا تمانع وجود سلطات محلية ضعيفة، إذا كانت تحظى بتفاهمات أمنية وتُبقي التهديد بعيداً. ولذلك لا أستبعد وجود قنوات تواصل غير مباشرة بين أطراف في السويداء وجهات خارجية، تسعى لضمان عدم الانفلات الكامل، ولكن دون أن تدعم أي مشروع لبناء سلطة محلية قوية ومستقلة”.
ويختم أبو صلاح حديثه بالتحذير من أسوأ السيناريوهات الممكنة، وهو الانزلاق إلى صراع أهلي مفتوح: “إذا لم يتم التحرك سريعاً على المستوى الوطني لتقديم دعم سياسي ومجتمعي لأبناء السويداء، وإذا استمر هذا الفراغ، واستمرت محاولات توريط المحافظة في اقتتال داخلي، فإننا نقترب من مشهد كارثي. السويداء ليست جزيرة معزولة، وما يحدث فيها سينعكس على الجنوب السوري برمّته، وربما على كامل البلاد. الحل لا يكون بالسلاح، ولا بالاصطفاف الطائفي، بل ببناء مشروع سياسي جامع، ومؤسسات مدنية قادرة على ضبط الأمن وتلبية احتياجات الناس”.
إن ما يجري في السويداء اليوم لا يمكن اختزاله في نزاع أهلي محدود أو ردود فعل آنية على حوادث فردية، بل هو تعبير عن أزمة بنيوية أعمق، تتعلّق بغياب المشروع الوطني الجامع بعد سقوط نظام الأسد، وانكشاف هشاشة البنى المجتمعية والسياسية التي خلّفها هذا النظام بعد عقود من الحكم الأمني والتفكيك الممنهج للروابط الوطنية.
الاشتباكات الدامية الأخيرة بين أبناء الطائفة الدرزية والعشائر البدوية، وما رافقها من تدخلات عسكرية رسمية وغارات خارجية، ليست سوى مظهر واحد من مظاهر فراغ السلطة، والتشظي السياسي والاجتماعي في مرحلة انتقالية فُرضت على البلاد دون وجود بنية تحتية سياسية أو مؤسساتية قادرة على إدارتها.
السويداء باعتبارها نموذجاً مصغراً لما قد تواجهه مناطق سورية أخرى إذا لم يتم تدارك هذا الفراغ بمشروع وطني تشاركي، يضمن تمثيل كافة المكونات، ويعيد بناء الثقة بين المجتمعات المحلية والدولة، على أسس جديدة من العدالة والمواطنة.







