سياسة

الرقة: على طاولة الرهانات: كـ “ورقة تفاوض” وآمال معلقة بين الوصاية والخذلان

يوليو 14, 2025

الرقة: على طاولة الرهانات: كـ “ورقة تفاوض” وآمال معلقة بين الوصاية والخذلان

سوريا – الرقة – عمر الهويدي

 
 

 

في مدينة الرقة السورية، حيث يختلط الغبار بحرارة الشمس المرتفعة بالذكريات، والماضي بالحاضر المرير، يعيش الناس حالة من الترقب الدائم المصحوب بالخذلان. 

 

الترقب لما قد تحمله الأيام بين طياتها من تغيرات سياسية وأمنية، والخذلان من واقع فرضته سنوات الحرب، وتكرسه اليوم سلطات الأمر الواقع بيد، واللا مبالاة الدولية باليد الأخرى.

 

الرقة، المدينة التي عاشت لسنوات في ظلام دامس، تحت سطوة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، لم تخرج بعد من دائرة الاستثناء. فبعد أن دُحر التنظيم على يد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بدعم مباشر من التحالف الدولي عام 2017، ظنّ الكثيرون أن أفقاً جديدة ستفتح، عنوانها الحرية والكرامة والتشاركية، لكن ما جرى فعلياً هو أن المدينة انتقلت من سلطة متطرفة إلى سلطة لا تقل صلابة في إحكام قبضتها الأمنية والعسكرية، وإنْ اختلفت الشعارات.

 

 

 

سلطة الأمر الواقع.. بتفويض أممي

 

 

تفرض “قسد”، ومن خلفها “الإدارة الذاتية”، سيطرتها الإدارية والعسكرية والأمنية الكاملة على مدينة الرقة ومحيطها. ورغم الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن “نموذج ديمقراطي تعددي”، يعكس المشهد على الأرض شيئاً مختلفاً تماماً.

 

القرارات تُتخذ في دوائر مغلقة، لا وجود فعلي لمؤسسات منتخبة تمثل السكان، ولا صوت يُسمع للفعاليات المدنية أو القيادات الاجتماعية التي لطالما كانت جزءاً من نسيج أصيل للمدينة، بسبب الاستحواذ على مركزية القرار والاعتماد على الحلول الأمنية التقليدية.

 

يشتكي السكان من واقع أمني خانق، وانتشار المخدرات بين صفوف الشباب وحتى الأطفال، وتزايد حالات الاعتقال التعسفي تحت ذرائع شتى. فالتهم الجاهزة تتراوح بين “تهديد الأمن العام”، و”التخابر مع تركيا أو الجيش الوطني”، فيما لا تتوفر آليات قضائية عادلة للطعن أو المحاسبة، وصارت الشكاوى تُقابل بالتجاهل، ووسائل الإعلام المستقلة تُمنع من تغطية ما يجري خارج ما تصرحه البيانات الرسمية، ولعل الأخطر هو اتساع الهوة بين السلطة والسكان.

 

فقسد لا تبدي اهتماماً حقيقياً بدمج أهالي الرقة في الإدارة، مراعية النسب المئوية للتمثيل السكاني، ولا مبالية لخصوصية المنطقة العشائرية، لما تحمله من إرث للأعراف وتقاليد اجتماعية متجذرة.

 

ولا تبدو معنيةً بإعادة إعمار المدينة على نحو ممنهج، فالبنى التحتية ما زالت مدمرة في كثير من الأحياء، والكهرباء والمياه والخدمات الصحية والتعليمية في حال يُرثى لها، رغم مرور 7 سنوات على طرد داعش.

 

وفي ظل هذا المشهد من الإقصاء والاحتكار الأمني والسياسي، برزت حادثة اغتيال الشيخ بشير الفيصل الهويدي إحدى أبرز الدلالات على نهج التصفية الذي تتبعه “قسد” ضد الأصوات المعارضة لها، لا سيما تلك التي تنبع من داخل البنية الاجتماعية للرقة، والتي كان الشيخ الهويدي أحد أبرز رموزها.

إن حادث اغتيال الشيخ بشير الفيصل الهويدي، كان الحدث الأبرز على الساحة السورية في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2018، حيث توجهت أصابع الاتهام إلى قسد بالوقوف وراء مقتله، باعتباره أحد الشخصيات المعارضة لقسد وسياساتها في المنطقة، ولما له من مواقف مناهضة لقسد، وانتقاده المستمر للاستحواذ والتفرد على المشهد السياسي في الرقة.

 

لكن الشيخ الهويدي ظل ينتقد الهيمنة القسدية، وقال كلمته المعروفة في اجتماع مع قوات قسد، في مدينة تل أبيض شمال الرقة، إنه يعتبر قسد مجرد ضيوف في الرقة، ولا يحق لهم التفرد بإدارة المدينة.

 

 

 

الرقة على طاولة الرهانات كـ “ورقة تفاوض”

 

 

بموازاة ذلك، تُستخدم الرقة ومعها عموم مناطق شمال وشرق سوريا ورقة تفاوضية في يد أطراف الصراع. فقسد، التي تسعى إلى ضمان اعتراف سياسي بها من دمشق، تجد نفسها في موقع هش، لا هي قادرة على فرض شروطها، ولا حكومة دمشق الجديدة مستعدة لتقديم تنازلات حقيقية تضمن نوعاً من اللامركزية الإدارية أو الحكم الذاتي تلبية لتطلعات قسد.

 

تجري مفاوضات متقطعة بين الجانبين، غالباً برعاية من جانب تركيا، قطر، المملكة العربية السعودية وبضغط أمريكي حذر، لكنها تظل مفاوضات تسير بخطوات بطيئة سرية وغير واضحة المعالم، لا تعكس هموم وواقع الناس المرير على الأرض. لا حديث عن العدالة الانتقالية، ولا عن ضمانات لعودة النازحين، ولا عن وقف الانتهاكات الحقوقية متمثلة بالاعتقالات التعسفية والتغييب القسري، بل تنحصر النقاشات غالباً في ترتيبات أمنية أو توزيع ثروات المنطقة والنزاع على الحصة الأكبر.

 

أما القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، فهي تتعامل مع الرقة كملف أمني مرتبط بارتباط وجود داعش، دون اكتراث حقيقي بمآلات الحياة المدنية أو السياسية. ما دام التنظيم المتطرف قد هزم، فإن ما تبقى بنظرها “مجرد تفاصيل محلية”، لا تندرج ضمن ملفها الإنساني، على اعتبارها حاضنة شعبية وخزاناً بشرياً لتنظيم “داعش”، على السكان تدبر أمرهم بأنفسهم تحت وصاية قسدية، بمعزل عن قواها الاجتماعية والمحلية.

 

 

 

ثمن الغياب مكلف.. مجتمع مفكك وهوية ممزقة

 

 

دفع أهالي الرقة ثمناً يفوق قدرتهم على تحمل هذا الغياب المزدوج من الدولة الجديدة وقسد ومؤسساتها ومصالح المجتمع الدولي على مستويات عدة. منها تردي الزراعة، وندرة فرص العمل، مع غياب المشاريع الاستثمارية أو الدعم التنموي.

 

فاقتصادياً، تعاني المدينة من شلل شبه تام بعامودها الفقري المتمثل بالزراعة، فالزراعة في الرقة أكثر من نشاط اقتصادي مترف، بل كانت وما تزال تاريخياً أصيلاً وبقاء وجودياً على مر العصور، والركيزة الأساسية التي تستند إليها حياة الناس ومعيشتهم.

 

لما كانت تنتجه من قمح وقطن وذرة صفراء وشمندر سكري وخضروات، وما تمتلكه من أراض خصبة ومياه وافرة.

 

إلا أن واقع الحال لا يعكس ما يفترض أن يكون في ظل سلطة قسد، فالدعم الزراعي في أدنى مستوياته، لا خطط زراعية تنموية مستدامة، ولا دعم مالي حقيقي، وإن وجد، فهو محدود وموسمي، لا يراعي احتياجات الأرض ولا حسابات الفلاح. أسعار الأسمدة والمبيدات مرتفعة، المازوت يباع في السوق السوداء بأضعاف سعره الرسمي، وتسعيرة شراء المحاصيل تحدد غالباً بأسعار متدنية، دون مراعاة لتكاليف الإنتاجية. 

 

فضلاً عن تردي البنية التحتية الزراعية من قنوات الري، والتي في الغالب لا تخضع إلى صيانة دورية لإطالة عمرها الافتراضي وزيادة القدرة الإنتاجية لها، وصولاً إلى محطات الضخ، والجمعيات الفلاحية، فهي إما مدمّرة أو متوقفة أو تدار بعشوائية.

 

أما المدارس بلا كادر مؤهل، والمستشفيات بلا تجهيزات حقيقية، وطرقات المدينة ما تزال شاهدة على أثار الدمار الذي خلفته مقاتلات التحالف الدولي وجحافل قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.

 

لا صوت يُسمع في هذه المدينة إلا أنين أهلها وهم يحاولون أن يرفعوا صوتهم، لولا أن أصفاد قسد تنتظرهم والتهم المقولبة تقف لهم بالمرصاد، كالولاء للعدو، سواء كان داعش أو الحكومة الجديدة أو تركيا.

 

واجتماعياً ونفسياً، هناك تجلٍّ واضح لتمزّق النسيج المجتمعي نتيجة سنوات الحرب والتهجير والتخوين.، فبات اليأس هو القاسم المشترك بين جيل نشأ في ظلّ تنظيم داعش، وآخر نشأ في ظلّ الخوف من سلطة جديدة لا تسمح له أن يحلم.

 

 

 

ماذا تريد الرقة من دمشق؟

 

 

الرقة لا تطالب بالكثير.. تطالب فقط بما هو حق طبيعي: أن تُحترم إرادة سكانها، وأن يشرك أبناؤها في إدارة شؤونهم، وألا يتم التعامل مع قسد على أنها الجهة الوحيدة المخولة بالتحكم برسم مستقبل الرقة، وأن تعزز الحياة المدنية، تطالب بإعادة إعمار عادلة، بمحاسبة المنتهكين أيا كانت الجهة، بفرص تعليم حقيقية، وبوقف نزيف الشباب إلى الانحراف أو الانحدار الأخلاقي.

 

لا تريد الرقة أن تكون مجرد ورقة مفاوضات مبنية على تقاسم الثروات، ولا أن تعزز سردية النظام البائد وحزبه القائد للدولة والمجتمع، كما كان يعرفها بـ”السلة الغذائية لسورية “، وأنها ليست إلا متجراً مجانياً للمحاصيل الزراعية وبراميل النفط. الرقة تريد أن تكون جزءاً من وطن، لا حقل تجارب للتجاذبات السياسية معزولة عن الواقع. وما لم يسمع صوت الناس هنا، فإن كل ما يُبنى فوق صمتهم لن يكون إلا جرحاً جديداً يثخن آلامهم.

 

 

 

كلمة أخيرة

 

 

الرقة اليوم ليست بحاجة إلى وصاية جديدة، بل إلى شراكة فاعلة. ليست بحاجة إلى شعارات واعدة، بل إلى خدمات وعدالة ومحاسبة حقيقية. من الظلم أن تُترك مدينة بهذه الأهمية رهينة سلطة بعقلية أمنية لا تمثلها، ومفاوضات لا تعبر عنها، وصمت حكومي لا يفسر إلا بالإهمال.

 

بين سندان قسد ومطرقة المفاوضات، آمال معلقة بين الوصاية والخذلان.

تقف الرقة جرحاً إضافياً مفتوحاً في ضمير الوطن، يبحث عن ضماد، عن معنى للانتماء، عن وطن لا يقايض سكانه، ولا يساوم على كرامتهم.

شارك