تكنولوجيا

الهوية الرقمية في سوريا: ضرورة وطنية في زمن الإعمار

يوليو 14, 2025

الهوية الرقمية في سوريا: ضرورة وطنية في زمن الإعمار

الهوية الرقمية هي البصمة الإلكترونية الرسمية التي تُمكّن كل مواطن من التعامل مع مؤسسات الدولة عبر الإنترنت، تماماً كما تفعل الهوية الورقية في النظام التقليدي، وتشمل بيانات مثل الاسم الكامل، الرقم الوطني، تاريخ الميلاد، مكان الإقامة، وربما خصائص بيومترية مثل صورة الوجه والبصمة وغيرها. 

 

كما أنها لا تقتصر على مجرد التعريف بالشخص، بل تمكّنه من الوصول إلى الخدمات الحكومية عن بُعد كالتسجيل المدني، استخراج الوثائق، دفع الضرائب، الخدمات الصحية، التعليمية، وحتى التصويت، بالإضافة إلى إثبات شخصيته إلكترونياً بأمان عند استخدام المنصات الرقمية الحكومية والخاصة، والربط الشامل بين بيانات المواطن في مختلف الجهات، مما يُنهي المعاملات الورقية والتكرار والفساد.

 

 

 ومثال على ذلك، تخيّل مواطناً يريد تجديد جواز سفره أو تسجيل مولود جديد، في دولة تملك هوية رقمية، يمكنه إنجاز الطلب من هاتفه خلال دقائق عبر تطبيقات حكومية ذكية موثوقة، أما في النظم البيروقراطية التقليدية، فعليه التحرك شخصياً، حمل الوثائق الورقية، وربما مواجهة تعقيدات بيروقراطية أو أمنية أو حتى فقدان البيانات.

 

إن غياب منظومة وطنية موحدة للهوية الرقمية لا يمثل تأخراً تقنياً فحسب، بل يُعبّر عن أزمة في العلاقة بين المواطن والدولة، ويعيق أي مشروع إصلاحي أو تنموي، قد يترتب عليه تراجع معدلات الشفافية والثقة بين المواطن والمؤسسات والبقاء عرضة لحالات فساد وتزوير تؤدي إلى فقدان الحقوق وفوضى في قواعد البيانات كما تربك التخطيط الحكومي في القطاعات الحيوية وتجعل مهمة تنفيذ التحول الرقمي الحقيقي أو إطلاق مشاريع رقمية استراتيجية صعبة جداً. 

 

كل ذلك يدفعنا للقول إن الهوية الرقمية ليست رفاهية بل ضرورة وطنية، خاصة في دول خارجة من حروب ونزاعات مسلحة وانقسامات عديدة من أجل ترميم العلاقة بين المواطن والدولة وتحقق العدالة والمساواة بين الجميع.

 

ولمن يتساءل كيف يمكن للهوية الوطنية الرقمية أن تحقق العدالة الاجتماعية عليه أن ينظر بعين الناقد للنظام البيروقراطي الحالي ويقارنه ببيئة رقمية موحدة وآمنة، يملك فيها جميع المستخدمين نفس الحقوق وتنطبق عليهم نفس الشروط، وبذلك يمكن لكل مواطن الوصول والمشاركة في كافة الفرص والخدمات المتاحة دون تمييز أو وساطات وبشكل تلقائي تساعد الدولة على بناء قاعدة بيانات موحدة دقيقة لكل فرد، ما يمكّنها من التخطيط، الاستهداف العادل للدعم، ومكافحة الفساد، ناهيك عن أنها قد تمثل جسراً لعودة ملايين اللاجئين والنازحين الذين بحاجة لهوية وطنية تؤكد انتماءهم وتُمكّنهم من العودة والمشاركة في إعادة البناء.

 

 

إذن ما الذي نحتاجه لبناء هذه المنظومة الحديثة بمواصفات معيارية تناسب الواقع السوري وتجعها تجربة ناجحة على مستوى العالم؟

بالنظر إلى تجارب مشابهة لدول مرت بظروف متشابهة نوعاً ما، نستطيع الجزم أن هذا المشروع يتطلب إرادة سياسية، وبيئة قانونية وتنظيمية واضحة، وبنية تقنية قابلة للتوسع. فقبل كل شيء نحن بحاجة إلى إطار قانوني وتشريعي يُفضي إلى إصدار قانون حديث للهوية الرقمية، يحدد الجهة المسؤولة، ويضمن حماية البيانات والخصوصية وتحديث القوانين المدنية والإدارية لتكون متوافقة مع الهوية الرقمية، ننتقل بعدها بشكل آمن ومنظّم إلى هيئة وطنية مستقلة تتبع رئاسة الحكومة السورية وتعمل بالتعاون مع وزارات الداخلية، الاتصالات، العدل، وغيرها بحيث يتم تحديد الأدوار بوضوح بين مختلف الجهات من يصدر ومن يراقب ومن يدير. 

 

 

وكما في كل مشروع رقمي يجب علينا حتماً الحديث عن حاجتنا الملحة التي تزيد يوماً بعد يوم إلى بنية تحتية رقمية آمنة وموثوقة، تشتمل على مستودعات بيانات مركزية مشفرّة ومزودة بأدوات الحماية اللازمة بالتنسيق مع الهيئة الوطنية للأمن السيبراني. دون أن ننسى حاجتنا في سوريا الجديدة للشراكات والتعاون مع الدول والمنظمات الدولية الرائدة في هذا المجال كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول مثل أستونيا والسعودية، وإشراك القطاع الخاص السوري في التطوير والتنفيذ والمتابعة وبناء القدرات والكفاءات الحكومية على المنظومة الجديدة ومخرجاتها، بالتعاون مع الجامعات والمعاهد التقنية المحلية.

 

وختاماً، إن بناء هوية رقمية وطنية ليس خياراً تقنياً تجميلياً، بل ضرورة سيادية واستراتيجية لمستقبل سوريا. في دولة خرجت من حرب مدمّرة، لا يمكن إعادة الإعمار ولا استعادة الثقة بين المواطن والدولة دون أساس رقمي عادل وآمن يضمن الحقوق ويعزّز المواطنة. 

 

وبذلك نُوجّه دعوتنا إلى صناع القرار، ابدؤوا اليوم بوضع خطة وطنية شاملة للهوية الرقمية، تضع الإنسان في قلب التحول الرقمي، وتعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة كهوية حقوق وواجبات. والرسالة المهمة للمختصين والتقنيين السوريين أن يضعوا في الحسبان أن هذه المنظومات الوطنية ليست برمجية تُشترى، بل منظومة تُبنى بجهود وطنية وخبرة محلية وعقل مؤمن بمستقبل أفضل.

 

سوريا تستحق أن تُبنى على رؤية وهوية رقمية وطنية جامعة وعادلة، تليق بمواطنيها وتُعيد لهم الكرامة، والاعتراف، والانتماء.

شارك