آراء

ليسوا خصومًا بل حُلفاء: قراءةٌ مختلفةٌ لتاريخِ الأكراد!

يوليو 13, 2025

ليسوا خصومًا بل حُلفاء: قراءةٌ مختلفةٌ لتاريخِ الأكراد!

في خطوة مفاجئة أمام الجميع، أعلن الرئيس التركيُّ رجب طيب أردوغان في خطابٍ جماهيريٍّ عن “انتهاء عصر البنادق بين الدولة والأكراد”، وفتح صفحةً عنوانها .. السلام والتنمية والمحبة بين التركِ والأكرادِ والعربِ، و بدا التصريح وكأنّه إعلان دفن لعقودٍ من الدم والخصومة ، وولادة جديدة لمرحلة كان يُظنّ أنّها لن تأتي أبدًا.

لكن من يقرأ تاريخ الأكراد، لا يستغرب قدرتهم على التحوّل، ولن يتفاجأ بعودتهم إلى طاولةِ السياسة والمفاوضات والاندماج، فهم لم يكونوا يومًا على هامش الأحداث، بل كانوا دومًا ضميرًا حيًّا في قلب الأمة، وشعبًا إذا هدأ هدأت الجبال، وإذا انتفض اهتزت العروش.


الأكراد ليسوا بدعًا من الشعوب ولم يتكونوا من نتاج صراع معاصر، إنّهم من أقدمِ الشعوبِ التي سكنت الجانب الشرقي الأدنى للعالم الإسلاميّ القديم و لهم لغتهم الخاصة وتقاليدهم الجميلة ، وروابط عميقة بالمنطقة ،وتَجَلَّت عبقريتهم الكبرى حين امتزجت كرديتهم بالإسلام، فانبثق منهم رجال دولة، وفقهاء، وقادة جند، أسهموا في صياغة القرار السياسيّ والعسكريّ للأمةِ في أكثر لحظاتِها حساسية.

يكفي أن يُذكَرَ اسمُ صلاحِ الدّينِ الأيوبيِّ حتى تُفكَّ عقدةُ التّصنيفِ والانتماء، فذلك القائد الكرديّ الذي أعاد للقدس حريتها، وبنى دولةً عابرةً للقبائلِ والمذاهب، لا تُسأَل عن لهجاتها وتقاليدها ، بل عن رايتها ومنهجها ، فصلاح الدّين لم يكن حالة استثنائية، بل كان تجسيدًا لأمةٍ كاملةٍ من الأكراد الذين انخرطوا في بناء التحالفات، وتعاونوا مع العباسيين والأتراك، وساهموا في الذود عن ثغور الإسلام من مشرقه إلى مغربه.

ففي بلاط العباسيين، كان للأكراد وزنٌ معتبر في الجيش والإدارة، وفي الدولة التركية تولّوا مناصبَ الوِلايةِ والحكم، وشكّلوا حزامًا بشريًا يحمي حدود الدولة العربيّة والتركيّة لاحقا من التغوّل الأجنبيّ، و في جانب آخر نجد أنّ كثيرًا من الطرق الصوفيّة الكبرى نشأت في البيئة الكرديّة، وحملت معها الإسلام إلى أقاصي الجبال،  بالموعظة لا بالغزو، وبالمحبة لا بالقهر.


لقد تميّزَ الأكراد عبر العصور بثنائية نادرة.. القدرة على الاحتفاظ بهويتهم الثّقافيّةِ الكرديّةِ، والانخراط العميق في المشروع الإسلاميِّ السياسيِّ العام، فبينما حافظوا على لغتهم وعاداتهم، لم تكن الكرديّة اللغة والثقافة لديهم حائط صدٍّ أمام التفاعل مع القضايا الكبرى للأمة، بل كانت منطلقًا يُثري الميدان السياسيّ والدعويّ.

وكان لهم أثرٌ واضح في نشر الإسلام في المناطق الجبلية والمغلقة التي استعصت على الفتح العسكريِّ، بفضل اعتمادهم على الوعظ والدعوة والتعليم. فنشأت في قُرَاهم المدارس والزوايا، وتخرّج من أرضهم العلماء والوعاظ، وصارت مناطقهم مراكز إشعاع روحي وثقافي امتد تأثيره إلى بلاد فارس والأناضول.

وحتى في المراحل التي ساد فيها التهميش، لم يتقوقع الأكراد في دائرة الاحتجاج، بل واصلوا الدفاع عن الأمة من مواقعهم، وشاركوا في ثورات المقاومة ضد الاستعمار الأوروبي، سواء في العراق أو سوريا أو الأناضول بل إنّ بعضهم شارك في الحركات الإصلاحية الإسلامية الحديثة، من منطلق إيمانه بأنّ قوة الأمة في وحدتها، لا في انقسامها.


ونجد الآن أنّ إنهاء الصراع التركيّ الكرديّ لا يعني فقط وقف إطلاق النار، بل هو مناسبة لتصحيح سردية ظلمت شعبًا بأكمله في عقول غيرهم ، فلا بدّ لقُرَّاءِ التاريخ من نظرةٍ جديدة بعدسات عادلة لتاريخ الكرد، فهؤلاء لم يكونوا خصوم الدولة الإسلامية، بل كانوا إحدى عضلاتها وأدواتها الفاعلة، وإعادة الاعتبار الآن لدور الأكراد هو جزء من مشروع ترميم الجسد الإسلاميّ الذي مزقته الحدود والنعرات العنصرية والاتهامات المتبادلة.

ولعل اللحظة السياسية التي نعيشها اليوم فرصة نادرة، لا ليعود الأكراد إلى التاريخ، بل ليعود التاريخ نفسه إلى وعي الأمة وشبابها ، العرب والترك وغيرهم، فتعيد ترتيب صفوفها أمام تحديات لا تفرّق بينَ عَرَبِيٍّ ولا كُرْدِيٍّ ولا تُرْكِيٍّ وغيرهم بل تنظر للجميع كلبناتٍ في بناءٍ واحدٍ مرصوص .

شارك

مقالات ذات صلة