مجتمع

إعادة الإعمار: عن ضرورة بناء ضمير سوري لا ينتقي ضحاياه..

يوليو 12, 2025

إعادة الإعمار: عن ضرورة بناء ضمير سوري لا ينتقي ضحاياه..

– طارق يوزباشي

 

 

 

ربما نحتاج أن نتعلم كيف نترحّم على بعضنا، أن نعزي أنفسنا كل صباح بمن ابتلعتهم سجون الأسد، بمن هشمت عظامهم المقابر الجماعية، بمن غيبتهم البحار والمحيطات، بمن اصطادتهم البنادق في بيوتهم وبين الأحراش.

 

في غربتي، صرت أصاب بنوبات خوف من النسيان، أن أنسى شارع بيتنا في اللاذقية والذي لطالما عدت إليه مهما ابتعدت عنه كقطّة قدرها أن تعود دوماً إلى بيتها الأول، أن أنسى تجاعيد وجه أبي وأمي، صوت أبي وهو يقرأ القرآن على سجادة صلاته وسط صالون بيتنا، أن أنسى رفاق الدرب والأحاديث التي كانت شرفتنا التي نطل من خلالها على الحرية رغماً عن أنف الأسد ومخبريه ومخابراته، أن تسرقني الحياة وهمومها ونمطها الكندي فأنسى من ماتوا من أجلنا جميعاً، أن أنسى أنّ للعدالة أسناناً بعد أن تحوّلت في نظر الكثير من السوريين إلى شيء يشبه ماء بركة موحلة.

 

 

كتبتُ مرة أنّ حب سوريا يشبه الجَرَب: كلما حدثني أحدهم عنها، شعرت بالحكّة. لكن ما لم أقله حينها، هو أن تلك الحكّة، رغم وجعها، هي محاولة مني لمداعبة البلاد، أو ربما لإبقاء الحريق المستعر داخلي قيد الحياة، فحب البلاد لا يكون بترديد نشيد وطني يمجّد جيشاً قتلك أرغموك على حفظه، بل بمقدار الألم الذي لا تسمح له أن يمحى من ذاكرتك! أن لا تمر مرور الكرام على صور من ماتوا من أهل بلدك فقط لأنهم من أبناء طائفة أو منطقة معينة، فتتحول إلى شيء يشبه آلة الفرز في معامل صنع عصير التفاح، فلا راحة في أوطان تبرئ قاتلاً لأنه من “عندنا”، وتدين ضحيةً لأنها من “عندهم”، تماماً كما فعلته نشرات أخبار الأسد وأبواقه بالأمس القريب عندما كانت تمرّ على أخبار موتنا ودمار مدننا على أنها أخبار ترفيهية!

 

ربما نحتاج اليوم أكثر من أي يوم مضى أن نعترف بأنّ سوريا التي نشتهي ونريد لن تبنى دون عدالة شاملة، ولا عدالة دون اعتراف، أن نعترف جميعًأ بأوجاعنا وفقدنا وضعفنا وبأنّ السوري الذي قُتل في قرية ما أو في حي ما هو ضحية وكل من قتله الأسد هو ضحية، نحن جميعاً ضحايا بؤرة جنون ضخمة قادتنا أقدارنا إليها، خرجنا من أرحام أمهاتنا لنجد أنفسنا في جوفها!

 

والأهم، أن نعي تماماً بأن العدالة التي نريد ربما لن تتحقق بشكل كامل، وربما لن يُحاكم كل القتلة، وربما لن يُعرف مصير كل المفقودين، وربما لن تُعمر البلاد بالسرعة التي نريد، وربما لن نحصل على كل الأشياء، لكن يمكننا أن نعترف بأننا “أضعنا بعضنا” وسط كل دوامة الجنون تلك، وبأنّ الطريق نحو بعضنا البعض يبدأ من امتلاك الشجاعة الكافية لمواجهة الماضي والحاضر، ورفض كل ما قد يقودنا مجدداً إلى الضياع في بؤرة الجنون تلك التي نقف اليوم على عتبتها ولدينا فرصة ربما لن تتكرر للخروج منها.

 

 

نحتاج اليوم إلى ذاكرة جمعية سورية جديدة “خلنج”، ذاكرة لا تُشبه دفاتر المخابرات التي رتّبتنا طوائف ومذاهب ومربعات أمنية، لا تشبه كتب القومية المزعومة التي حفرت في عقولنا صورة الأسد أكبر من مفهوم الوطن، لا تشبه نشرات الأخبار التي اختزلت وجعنا بسطرٍ ونصف السطر إن بقي وقت بعد أخبار استقبل وودع، نحتاج إلى ذاكرة لا تتورّع عن الاعتراف في حال تعرّض سوري واحد للظلم أو الأذية، ولا تخاف من الملامة، ولا تنتقي ضحاياها كما تُنتقى عناقيد العنب من الدالية، نريد ذاكرة في حالة ثورة دائمة لا على مفاهيم الأسد فقط، بل على كل ما قد يعود بسوريا إلى بؤرة الجنون من مفهوم “الرئيس القدر” إلى فكرة “علوي أم سني”، “درزي أم مسيحي”، “شهيد أم فطيسة”!

 

 

نريد ذاكرة نرويها لأطفالنا دون أن نُخفي نصف الحكاية، دون أن نشوه الحقيقة ونحقنها إبر بوتكس، نريد أن نحكي لهم عن “داريا” و”دوما” و”بابا عمرو” و”سلمى” و”الحولة” و”البيضا” و”مخيم اليرموك” و”الرستن” و”التضامن”، نريدهم أن يعشقوا مدناً لم يعيشوا فيها من قبل، نريد لتلك البلاد أن تنطبع في ذاكرتهم على شكل قطعة حلوى كبيرة، ذاكرة تشبه جلسة شاي في بيت عربي في أحياء الشام القديمة فيه صورة معتقل ما زال مفقوداً معلقة على الحائط وعلم سوريا الأخضر وصحن زيت وزعتر على الطاولة والكثير من الأحاديث التي تبدأ بكلمة “بتتذكر”، فلا نريد لهم أن ينسوا حتى لا تغوص البلاد في بؤرة جنون جديدة..

 

 

نحتاج اليوم إلى بناء ضمير جمعي سوري لا ينتقي ضحاياه، لا يلتفت إلى الاسم ولا يسأل عن الطائفة ولا عن القرية والمدينة والحي، ضمير يرى الضحية قبل هوية القاتل، والجرم قبل طائفة المجرم، والتجاوز قبل البيان السياسي، ضمير لا ينوح على شهيد لطائفته ويبتلع لسانه لموت آخر لطائفته أيضاً، ضمير يبكي أي سوري إن قُتل حتى ولو كان من قرية لا نعرف اسمها، ضمير يشعرك بأن السوري الذي قُتل ظلماً هو جارك في البناية أو صاحب الدكان في حارتك حتى ولو لم تكن قابلته في حياتك، ضمير سوري جمعي يجعلنا نتفق على الحزن وعلى الفرح، يجعلنا نعترف بأننا جميعاً ضحايا بؤرة جنون كان اسمها “سورية الأسد”!

شارك