مجتمع
سوريا – الرقة، عمر الهويدي
يثير مقطع فيديو متداول على مواقع التواصل الاجتماعي لطفل صغير من مدينة الرقة شمال سوريا، وهو يتعاطى مادة “الكريستال”، المعروفة محلياً بـ “الإتش بوز”، موجة عارمة من الغضب والاستياء في الأوساط المحلية. الطفل الذي لا يتجاوز عمره 10 سنوات، ظهر في المقطع وهو يستنشق مادة يُشتبه بأنها من النوع المخدر شديد التأثير، وسط غياب كامل لأي دور رقابي أو تدخل من السلطات المحلية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أو حتى من المنظمات الدولية العاملة في المنطقة.
الاسم العلمي الشائع لمادة “الكريستال”، ميثامفيتامين، المعروفة محلياً باسم “الإتش بوز”، تعتبر من أخطر أنواع المخدرات انتشاراً في مناطق شمال وشرق سوريا. وبحسب تقارير طبية وميدانية، تؤثر هذه المادة ذات التأثيرات العصبية والسلوكية المدمّرة، مباشرة على الجهاز العصبي وتؤدي إلى اضطرابات شديدة في المزاج والسلوك، خاصة لدى الأطفال واليافعين، ما يجعلهم عرضة للعدوانية وفقدان السيطرة على الانفعالات.
وتشير التقارير إلى أن انتشار هذه المادة في الرقة ومناطق الجزيرة السورية قد تصاعد خلال السنوات الماضية، تزامناً مع سيطرة قوات قسد على المنطقة، وغياب مؤسسات الدولة، وتراجع دور المنظمات الطبية والتربوية، في ظل واقع اقتصادي هش وانهيار شبه كامل للمنظومة التعليمية والاجتماعية.
شهادات ميدانية لأهالٍ وناشطين محليين تؤكد أن الأطفال الذين يتعاطون الكريستال يعانون تغيرات حادة في سلوكهم، تشمل التوتر والعصبية المفرطة، والانفعال غير المبرر، وصولاً إلى ارتكاب أفعال جرمية مثل السرقات المتكررة. تبدأ هذه السرقات داخل الأسرة، ثم تتوسع لتشمل المحال التجارية والمارة في الشوارع، وربما تتطور إلى انخراط في شبكات الجريمة المنظمة.
ويربط مختصون في الصحة النفسية هذا التدهور السلوكي بمجموعة من العوامل المتداخلة، أهمها غياب الرقابة الأسرية، وانعدام البرامج الوقائية والتوعوية، وافتقار المدينة إلى مراكز تأهيل متخصصة قادرة على معالجة هذه الحالات ودمج الأطفال مجدداً في المجتمع، سواء عبر العودة إلى التعليم أو تأهيلهم للدخول إلى سوق العمل.
في السياق ذاته، حمّل ناشطون محليون المسؤولية الكاملة عن هذه الظاهرة لقوات سوريا الديمقراطية، باعتبارها الجهة المسيطرة إدارياً وأمنياً على المدينة. واتهموها بالتقاعس عن ضبط الحدود، وغض الطرف عن شبكات ترويج المخدرات، كما السكوت عن بعض العناصر المرتبطين بها بشكل مباشر أو غير مباشر، على حد تعبيرهم.
كما طالت الانتقادات منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية العاملة في المنطقة، والتي اتُّهمت بالفشل في أداء دورها في التوعية والتأهيل، وعدم تقديم أي برامج ملموسة تستهدف الأطفال المتعاطين أو أسرهم.
في تطور موازٍ، شهدت المدينة حادثة أثارت الرأي العام المحلي، تمثلت في مقتل الطفل “علي عباس العوني” (14 عاماً) في بداية شهر تموز/ يوليو الجاري، على يد أحد عناصر قسد، إثر إصابته برصاصة مباشرة في الرأس، بحسب ما أفادت به مصادر من عائلته. وذكرت المصادر أن ذوي الطفل أُجبروا على دفنه ليلاً وتحت رقابة أمنية مشددة، كما مُنعوا من إقامة بيت عزاء له.
بدوره، أدان فرع “نقابة المحامين في الرقة” هذه الجريمة عبر بيان نشره على صفحته الرسمية في فيسبوك، واعتبرها “إعداماً ميدانياً لقاصر أعزل”، مؤكداً أن الحادثة ليست فردية، بل تأتي ضمن سلسلة من الانتهاكات المنهجية التي ترتكبها قسد بحق السكان في المنطقة.
ولم تخلُ الساحة من انتقادات موجهة إلى الحكومة السورية المركزية، حيث رأى محللون وحقوقيون أن الصمت الرسمي إزاء ما يجري في المناطق الخارجة عن سيطرتها، وعلى رأسها الرقة، يشكّل نوعاً من التواطؤ السياسي أو القصور في تحمل المسؤولية الوطنية.
وطالب ناشطون الحكومة الجديدة باتخاذ موقف أكثر وضوحاً من الانتهاكات الحاصلة، بما فيها الاعتقالات التعسفية، والاغتيالات المتكررة، وانتشار المخدرات. وأكدوا أن إبداء الاهتمام بهذه القضايا لا يتعارض مع المسار التفاوضي الجاري مع قسد، بل يعكس جدية الحكومة في تبني نهج وطني جامع.
عانت مدينة الرقة خلال العقد الأخير من سلسلة طويلة من الأزمات والتحولات الكبرى. فمنذ عام 2013، خضعت المدينة لسيطرة عدد من الفصائل المعارضة، قبل أن يتحول الوضع مع سيطرة تنظيم “داعش”، الذي جعل من المدينة عاصمة لما وصفها بـ “دولة الخلافة”. وعلى مدى سنوات، فرض التنظيم نظاماً بوليسياً قائماً على الرعب والإعدامات العلنية، ما خلّف آثاراً نفسية عميقة لدى السكان، خاصة الأطفال.
ورغم طرد التنظيم عام 2017 على يد التحالف الدولي وقسد لم تنعم الرقة لم بالاستقرار، إذ واجهت تحديات أمنية واقتصادية واجتماعية، تمثلت في غياب الخدمات الأساسية، وتراجع قطاع التعليم، وارتفاع نسب البطالة، ما جعل الأطفال عرضة للضياع، وبيئة ملائمة لتفشي ظواهر خطيرة مثل المخدرات والانحراف السلوكي.
أمام هذا الواقع المأزوم، ترتفع الأصوات المحلية مطالبة بتحرك فوري للحد من ظاهرة تعاطي الأطفال للمخدرات، من خلال تفعيل الرقابة الأمنية على منافذ التهريب، وملاحقة المروجين، وإطلاق حملات توعية موجهة للأهالي واليافعين، بالإضافة إلى إنشاء مراكز تأهيل وعلاج مجانية، بإشراف طبي ونفسي متخصص.
ويحذر ناشطون من أن التساهل مع هذا الملف قد يؤدي إلى انهيار مجتمعي أوسع، يجعل من الرقة بؤرة للانحراف والجريمة، في وقت تحتاج فيه المدينة إلى التعافي، لا فقط من تبعات الحرب، بل من آثار ما بعد الحرب التي ما تزال تضرب في عمق نسيجها الاجتماعي والإنساني.