مشاركات سوريا

أزمة دير الزور كما أراها:الجغرافيا، العراق، التهميش

يوليو 10, 2025

أزمة دير الزور كما أراها:الجغرافيا، العراق، التهميش

وقعت 571 شخصية من محافظة ديرالزور،على بيان يُذكرون فيها السوريين والسلطة الجديدة في سوريا بمكانة المحافظة النائية شرقاً، بما وصفوه بالركن الأصيل في الجغرافيا السورية والنجمة الثالثة في علم الدولة السورية، وإذ طالب البيان بتشكيل لجنة تقصي حقائق تزور دير الزور وتستمع إلى مطالبات الأهالي وشكواهم التي ربما يكفي العمل التدريجي للجهاز التنفيذي فيها لحلها، فإنه اقتصر بالنصح والحض على الاستماع لأهالي المحافظة بدون إعطاء آليات واضحة لحل هذه المشكلات، فيما بدا أنه مجرد صرخة استغاثة لحكومة مركزية جديدة شديدة الانشغال بقضايا خارجية وداخلية أخرى أشد إلحاحاً.

 

 

 

لم يتعرض البيان إلى المشكلة الأساسية بالنسبة لسكانها، والتي تتألف من شقين، أولهما دمار مركز المحافظة بشكل شبه كلي، يحتاج لجهود جبارة فعلاً ويبدو أن الحكومة الجديدة لا تمتلكها حالياً لإعادتها إلى الحياة بخدماتها وحيويتها، وبما أن جزءاً من المحافظة ما زال تحت سيطرة قوات قسد يجعل مستقبل المحافظة ضبابياً وغير واضح المعالم، وهو ما يؤخر عملية إعادة الإعمار، وكلا الأمرين لا تمتلك لهما السلطة الحالية إجابات حتى اللحظة الراهنة سوى التحلي بالصبر، والأمر يخص محافظات شرق سوريا الأخرى (الحسكة والرقة) إذا أردنا أن نرى المشكلة بشكلها الصحيح من حيث قسد وسيطرتها على أراضي ذات أغلبية عربية تخرج من دائرة احتكارها للتمثيل الكردي في سوريا والذي بدوره ليس تاماً ولا كاملاً، وكون شرق سوريا عموماً يعيش منذ عقود في سرديات التهميش والمظلومية.

 

 

 

 الجغرافيا والتهميش

 

 

 بالتأكيد لدى أبناء ديرالزور أسباب معلنة وأخرى مضمرة، لهذا الاحتجاج المتزايد تجاه الواقع الجديد ولديهم ما يبرر شعور التهميش والإحساس بالعزلة ضمن المجتمع السوري، والذي يبدو أنهما الدافع الأساسي لهذا البيان الجماعي أكثر من الواقع الخدمي والأمني المترديين في كافة الجغرافيا السورية أصلاً، وقد أصبحت الشكوى من التهميش سمة اعتيادية في نفسية أبناء المنطقة. 

 

 

في وقت ترقى فيه عدد كبير من المسؤولين في المناصب الجديدة الحكومية والأمنية الرفيعة والأكثر أهمية وحساسية في سوريا، فإن واقع المحافظة الخدمي والأمني يبقى شيئاً آخر منفصلاً عن التغيير الكبير في هيكلية الدولة السورية ما بعد نظام الأسد، ويبدو أن السياقين مختلفان، فالمسؤولون الجدد قادمون من السياق الجهادي القريب من هيئة تحرير الشام، ولم يكونوا مسؤولين ممثلين قادمين من منطقة معينة، انتخبهم سياق الأحداث خلال الثورة السورية، ولم تنتخبهم جغرافيا دير الزور، كانوا أبناء الجهاد والعمل المسلح أكثر مما هم أبناء المنطقة، وإذا بحثنا في تجاربهم نجدهم أقرب لتجربة إدلب المحررة والمحكومة ذاتياً منها لتجربة دير الزور بعد تحريرها.

 

 

فالأخيرة تبدو محافظة شرقية غائصة جغرافياً في العراق، ناتئة ونافرة عن الجغرافيا السورية، وإذا أقررنا بصعوبة هذه الجغرافيا في سوريا بشكل عام، حيث تبدو العاصمة دمشق في أقصى الجنوب قريبة جداً من التهديد الإسرائيلي ومن التهديدات القادمة من البحر المتوسط وامتداد الصحراء إلى وسط سوريا، ما يقتل أي أمل بعاصمة أكثر مركزية وتوسطاً فيها، إضافة إلى أن سوريا تبدو متناثرة ولا يربط بينها عامل طبيعي كنهر النيل في مصر على سبيل المثال، وربما هذه الجغرافيا منعت قيام دولة مركزية طويلة الأمد في سوريا تاريخياً، إلا أن مشكلة دير الزور تبدو أكثر حساسية من باقي المحافظات التي يعيش سكانها مشاعر التهميش والإقصاء، حيث يُلاحظ أنها تكتسب درجة أعلى من المظلومية، وربما ذلك ما دفع الشخصيات الـ500 إلى توقيع البيان السابق.

 

 

 

عقدة الهوى العراقي

 

 

على عكس إقليم إسكندرون الذي صار من حصة تركيا قبيل الحرب العالمية الثانية، ضم الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الأولى دير الزور إلى سوريا، لم تختر سوريا ضم المحافظة الشرقية إليها ولم يُستفتى أهالي دير الزور آنذاك، كان القرار بين المنتصرين الاثنين الفرنسيين والإنكليز فقط، هما من رسما الحدود بين دول الشرق الأوسط. 

 

فعندما دخلتها القوات الإنكليزية نهاية الحرب العالمية الأولى كانت من حصة الانتداب البريطاني في العراق، إلا أن الإنكليز انسحبوا منها وتركوا مدينة دير الزور الصغيرة جداً آنذاك لحكومة محلية سميت حكومة (الفّلت) وهو المصطلح الذي سوف يشير لاحقاً إلى مدى انفلات الأوضاع الأمنية ورثاثة التمثيل السياسي فيها. 

 

بقيت هذه الحكومة مستمرة في ظل عزوف فرنسي وإنكليزي عن إدارتها، بدون أن تتبع لأحد سوى إدارتها المحلية، كل هذا السياق خلق لاحقاً بلبلة (دير الزور محافظة عراقية) أو التعبير الشائع (الدير أقرب للعراق) ليعيش كأسطورة تتغذى على هامش المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للمحافظة، وهي كثيرة بحكم مناخها وموقعها ومجتمعها الريفي، وعلى خلاف كل المشاكل الترابية مع جيرانها منذ قيام المملكة السورية بعيد نهاية الحرب العالمية الأولى، حسمت قضية دير الزور لصالح سوريا ولم يُفتح باب المطالبات بها مثلما حدث مع المناطق المتاخمة لتركيا، وليس مشابهاً كذلك بالقضايا الحدودية مع لبنان والتي منحت فيها سلطات الانتداب الفرنسي أراضي سورية لصالح لبنان الكبير.

 

 

 

العشيرة والظل الصدامي

 

 

لاحقاً خلال ثمانينيات القرن الماضي سوف يصل للحكم في العراق صدام حسين الذي ينحدر من عشائر ريف وأنصاف رحل في الجهة العراقية وراء الحدود، ورغم عدم وجود صلات قربى مباشرة بين هذه العشائر إلا في مناطق حدودية محدودة، عوّل البعث العراقي على العشيرة وما تمثله من رمزية للقومية العربية اليمينية للفرع العراقي، ما خلق حالة تضخم للظل الصدامي في شرق سوريا، وأعاد من جديد فكرة انتماء دير الزور السوري أو العراقي إلى الواجهة محمولة على أكتاف شعبية صدام حسين وكارزميته، وهو الأمر الذي بالتأكيد سوف يثير الريبة والشك لدى نظام الأسد الأب تجاه المحافظة وسكانها، فميولهم الصدامية لا يمكن أن تمر مرور الكرام على دوائر صنع القرار فيه، خصوصاً مع حالة العداء الشديد بين النظامين البعثيين في البلدين.

 

 

 ولا نعرف على وجه اليقين تضرر المحافظة من هذا الظل الصدامي أو من الشك الأسدي، إلا أن تهمة البعث العراقي أو زيارة العراق كانت تعد من الكبائر لدى نظام الأسد وبقيت الحدود مغلقة من ناحية ديرالزور وإذا كانت المحافظة تدفع ثمناً باهظاً لوشائجها مع العراق، فقد بدت معزولة وبدون هوية عميقة في عزلتها السورية عن محيطها الاجتماعي الطبيعي، إن أطروحة التهميش المقصود للمحافظة خصوصاً  من قبل البعث السوري و التي يطرحها البعض تحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء والتساؤل وليس إلى العواطف والمشاعر الثورية، خصوصاً مع انعدام مثال  آخر لحكومة حكمت دير الزور يمكن أن نقارن سياسات نظام الأسد معها أو حالة سابقة على نظام الأسد ترشدنا إلى المظلومية أو التهميش المقصود المفترض طوال فترة حكم النظام السابق، ومن ماذا حرمت مقارنة بمحافظات أخرى.

 

 

 

كان لافتاً أن يتقدم تنظيم الدولة الإسلامية عراقي النشأة والتكوين في محافظات شرق سوريا ذات الصبغة العشائرية، ويسحق بسهولة الجناح الجهادي الشامي (جبهة النصرة) بسهولة فيها، بينما وجد مقاومة شرسة في شمال سوريا، حيث بدت مجتمعات محافظات حلب وإدلب أكثر صلابة في مواجهتها، وهو ما يدلل على عمق التأثيرات العراقية في ديرالزور وجاراتها، وفيما كان الاحتجاج من أبنائها على نظام الأسد بدعوى التهميش، أصبحت ديرالزور خلال سيطرة تنظيم الدولة ضحية تهشيم متعمد طال الحجر والبشر وكل ما نجا من التهميش خلال عقود سابقة.

 

 

إن أزمة دير الزور المركبة والتي تتلاقى فيها الجغرافيا بالثقافة والانتماء وسياق الأحداث خلال 14 عاماً، إضافة إلى الواقع الحالي الضبابي فيما يخص مستقبل المحافظة في ظل وجود قوات قسد في جزء منها، يعرقلان عملية استرجاع دور الدولة السورية فيها، ودمارها الهائل وغياب الخدمات اللذين يحتاجان لجهود جبارة لتأهيلهما، إضافة لكونها إحدى ساحات العمل المحتملة لتنظيم داعش في حال عودته للنشاط من جديد في سوريا، كل تلك المعطيات الحساسة، لا ترسم صورة مثالية لإعادة الإعمار فيها ولا إنعاشها، ويبدو البيان الأخير ووراءه هذه الخلفية الاجتماعية والسياسية المعقدة لهذه المنطقة، مجرد صرخة احتجاج أخرى بدون طائل تتلاشى كفقاعة فيما تكمل المحافظة في مصيرها المرسوم من قبل الأطراف الأكثر تأثيراً حكومة دمشق وقسد وربما الراعي الأمريكي.

شارك