أدب
من المعروف أن أشهر كتب أبي الفرج الأصفهاني هو موسوعته: الأغاني، لكن حديثنا اليوم، هو عن كتاب آخر للرجل، كاد يطويه النسيان، لولا أن الله أحياه مجددا، وهو كتاب “أدب الغرباء”. و”أدب الغرباء” كتاب لطيف، خصصه الأصفهاني لآداب المغتربين والنازحين والمشتاقين إلى أوطانهم، وقصة طبع هذا الكتاب لا تخلو من غرابة، ذلك أن أبا الفرج لم يكن قد طُبع له بعد طباعة كتابه الأغاني إلا كتاب “مقاتل الطالبيين”، أما كتبه الأخرى فقد ضاع معظمها.
خرج الدكتور صلاح الدين المنجّد رحمه الله، في رحلة علمية إلى طهران عام 1965، فلقي في جامعة طهران عميد كلية الإلهيات بديع الزمان فوروزانفر رحمه الله. كان بديع الزمان راوية لأشعار العرب وآدابهم، فدعا صلاح الدين المنجد إلى بيته في طهران، وعندما زاره أخبره بديع الزمان بأن لديه مخطوطا لأبي الفرج لا يعلم بوجوده عنده أحد، ولم يكن ذلك المخطوط سوى كتاب أدب الغرباء لأبي الفرج. أهدى بديع الزمان للمنجد شريطا من المخطوط، وذهب به المنجد على أن يحققه وينشره. وبعد سنوات حقق المنجد الكتاب ونشره عام 1972، وكان بديع الزمان قد توفي قبل أن يرى نشر الكتاب (توفي عام 1970)، لكن كان له الفضل بعد الله تعالى في نشر الكتاب لأنه هو الذي أطلع المنجّد على المخطوطة وأعطاه نسخة منها.
مما يميز كتاب أدبِ الغرباء أنه من آخر ما كتب الأصفهاني، إن لم يكن آخر ما كتب، فقارئ هذا الكتاب يجد أمامه مختارات لشيخ أديب في آخر عمره، أي إنك ستجد ما انتخبته ذائقة هذا الشيخ التي نحتتها التجربة، وهذبتها الأيام، بعبارة أخرى: ستجد أرَقّ الأشعار وأعذبها.
كثيرا ما كان يترك الغريب أثرا في غربته على حائط أو شجرة ليُعرفَ أنه مر من ذلك المكان، فهكذا كان يفعل الغرباء الواردة أخبارهم في “أدب الغرباء”. وقد علل الأصفهاني سبب ترك الناس رسائل على الجدران والأشجار فقال:
“مِن شأن الغرباء في الأسفار، ومن نزحت به الدار عن إخوانه وأترابه، إذا دخل موضعا مذكورا أو مشهدا مشهورا، أن يجعل لنفسه فيه أثرا، تبرًّكا بدعاء ذوي الغربة، وأهل التقطع والسياحة”.
من هذه المختارات اللطيفة التي أوردها أبو الفرج في كتابه، أبيات للنابغة كتبها أبو جعفر على حائط قصر عبدويه، ولم يلبث بعدها قليلا حتى توفي، وهي:
المرء يأمل أن يعيـش وطول عيش قد يضرُّهْ
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مُرُّهْ
وتسوؤه الأيام حتـى لا يرى شيئا يسُرُّهْ
كم شامتٍ بي إن هلكْتُ وقائلٍ لله درُّهْ
ومن مختارات أبي الفرج أيضا، ما نحته الواثق على حائط “المختار”، والمختار منزلٌ يسر من رأى، كان يشرب فيه السادة ويسقيهم رهبانه، وقد شرب فيه الواثق وسمع الغناء فنحت على حائطه قوله:
ما رأينا كبهجة المختارِ لا ولا مثلَ صورة الشّهّارِ
مجلسٌ حُفَّ بالسرور وبالنـرْجِسِ والآس والغنا والبَهارِ
ليس فيه عيب سوى أن ما فيهِ سيفنيه نازلُ الأقدارِ
وكتب أحد المغتربين على شجرة:
خبرينا خُصِّصْتِ ياسَرْحُ بالغـيـث بصدق والصدق فيه شفاء
هل يموت المحب من ألم الحُبِّ وهل ينفع المحبَّ اللقاءُ
ثم خرج، فلما رجع للشجرة وجد كاتبا كتب تحت بيتيه:
إن جهلا سؤالُك السرح عما ليس يوما عليك فيهِ خفاءُ
ليس للعاشق المحب من العيشِ سوى منظرِ الحبيبِ داوءُ
من مختارات أبي الفرج كذلك، أبيات كتبها رجل من أهل مرو (خراسان)، على حائط كنيسة الرُّها في العراق وهو مغترب هنالك، يقول المَرْوَزِيّ (نسبةً إلى مرو):
ولي همة أدنى منازلها السُّها .. ونفس تعالت بالمكارم والنُّهى
وقد كنت ذا حال بمروٍ قريبةٍ .. فبلَّغَتِ الأيام بي بِيعَة الرُّها
ولو كنت معروفا بها لم أقم بها .. ولكنني أصبحت ذا غربة بها
ومن عادة الأيام إبعادُ مُصطفى .. وتفريقُ مجموعٍ وتبغيضُ مشتهَى
ولنختم بقصة البخيل، فقد ذكر أبو الفرج في كتابه هذا، أن رجلا بخيلا كان له حمار، فكان يمسك مخلاة الحمار ويقرأ عليها “قل هو الله أحد” سبع مرات، ثم يعلقها على الحمار. فلم يلبث الحمار أن نَفَقْ (هلك)، فدفنه الرجل وبنى عليه قبة وكتب على حائطها:
ألا يا حمارا كان للحُمر سابقا .. فأصبح مصروما على السيبِ في قبرِ
جُزيت مع القتِّ الشعير مغربلا .. وأسكنك الرحمن في جنة الحُمرِ
مضى زمن على هلاك الحمار، فمر عابر سبيل بالقبة، وكان شديد الفاقة، فصُدم لما عرف أنها قبر حمار، ثم جعل يقارن حاله بحال ذلك الحمار: الحمار وجد العناية وهو نافق، وهذا الغريب لم يجد من يعتني به وهو حي، فما كان من الغريب سوى أن كتب على قبة الحمار:
الحمد لله لا شريك له .. ماذا أرى من عجائب الزمنِ
إنْ كان هذا الحمارُ في كفنٍ .. وقُبّةٍ إنني بلا كفنِ!
ما تقرأه في كتاب أبي الفرج هذا، من آثار المغتربين، وتسجيلاتهم لخواطرهم، ورحيلهم ورحيل من روى لنا أخبارهم، ورحيلنا بعد ذلك، يذكرك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”.
عِشتُم طويلا،،،