Blog

صاحبُ البُردة (2) .. مدائح البوصيري قبل البُردة!

يوليو 9, 2025

صاحبُ البُردة (2) .. مدائح البوصيري قبل البُردة!

في عهد الخليفة العباسي المستعصم عام 654 من الهجرة، بعد نهاية صلاة التّراويح، في ليلة الجمعة الأولى من رمضان، اندلعَ في المسجدِ النَّبويِّ حريقٌ أدَّى إلى انهيارِ سقفِ المسجدِ والمنبرِ، فتدمَّرت محتوياتٌ، وضاعتْ آثارٌ، واحترقتِ الكتبُ والمصاحفُ، لم يسلم سِوَى غرفة وقبرِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وبقية القبورِ، رافقت هذه الحادثة هزّات أرضية بالمدينة، نتج عنها انفجار بركان على بعد 8 كم فقط من قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، نظم البوصيري وقتها قصيدته المشهورة التي أسماها “تقديس الحرم من تدنيس الضرم” وكانت تلك القصيدة بداية عهد البوصيري بالمدائح النبوية.


الحديث عن مدائح البوصيري يطول، لكن سنكتفي بذكر أشهر مدائحه، وسنبدأ بأولها تاريخيًّا، مع تلك التي ذكرنا قصتها، ومطلعها “إلهي عَلَى كلِّ الأمورِ لَكَ الحَمْدُ”، يقول البوصيري في هذه القصيدة:

أشارتْ إلى أنَّ المدينةَ قَصْدُها            قرائنُ منها ليسَ يَخْفَى بها القَصْدُ

يَرُوحُ ويغْدُو كلُّ هَوْلٍ وَكُرْبَةٍ            على الناسِ منها إذْ تَرُوحُ وَإذ تَغْدُو

فلمَّا التَجَوْا للمصطفى وَتَحَرَّمُوا          بِسَاحَتِهِ والأمرُ بالناسِ مُشْتَدُّ

أَتَوْا بِشَفِيعٍ لا يُرَدُّ وَلَمْ يَكُنْ                بِخَلْقٍ سوَاهُ ذلك الهَوْلُ يَرْتَدُّ

فَأُطْفِئَتِ النارُ التي وَقَفَ الوَرَى          حَيَارَى لَدَيْهَا لم يُعيدوا ولم يُبْدُوا

يقول في هذه الأبيات: 

هناك قرائن واضحة من الحادثة لا تخفى على الجميع، فالمقصد هنا ظاهرٌ وليس مستترًا، فالناس تأتي وتذهب وتغدو وتروح وعند وقوع الكربات والأهوال يلجؤون لمن لا يُلجأ له، لكن حين التجأوا لسيد الخلق المصطفى صلى الله عليه وسلم وقت اشتداد ذلك الأمر بالناس، انطفأت النار التي جعلت سكان المدينة حيارى عاجزين ليس بيدهم شيء، لكنه يصل بالمديح إلى أن يُعَبِّرُعن اشتياقه إلى الذهاب إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول في آخر القصيدة:

فَهَبْ لِي رسولَ اللَّهِ قُرْبَ مَوَدَّةٍ            تَقَرُّ بِهِ عَيْنٌ وتَرْوَى بِهِ كبِدُ

وإني لأَرْجو أنْ يُقَرِّبَني إِلَى               جَنَابِكَ إرُقالُ الرَّكائِبِ والوخْدُ

ويظهر في هذه الأبيات اشتياقُه إلى الذهاب إلى المدينة المنورة وزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيثُ يطلب أن يهبه الرسول صلى الله عليه وسلم قُرب المودة منه صلى الله عليه وسلم حتى تَقَرَّ عِينُهُ ويُرْوَى كَبِدُه، ويرجو منه أن يُقرِّبَه إلى جنابه الشريف، إسراع الدّوابِّ  سواء كانت خيلًا أو نوقًا.

ونظم بعدها حائيته المشهورة التي يقول في مطلعها:

أمَدائِحٌ لِي فِيكَ أمْ تَسْبِيحُ                لوْلاكَ ما غَفَرَ الذنوبَ مَدِيحُ

حُدِّثْتُ أنَّ مَدَائِحي فِي                 المصطفى كفَّارَةٌ لِيَ وَالحَدِيثُ صَحِيحُ

أرْبِحْ بِمَنْ أهْدَى إليه ثَنَاءَهُ             إنَّ الكريمَ لَرَابِحٌ مَرْبُوحُ

يا نَفْسُ دُونَكِ مَدْح أحْمَدَ إنَّهُ           مِسْكٌ تَمَسَّكَ ريحُهُ والرُّوحُ

يقول في هذه الأبيات عن كلام الناس إذ يحدثونه أن مديحه لرسول الله غفّارٌ للذنوب، كفّار للسيئات، ثم يصدق على هذا الكلام، ويقول أنه رابح بمدحه لرسول الله وإهدائه له الثناء، ثم يأمر ذاته بأن يستمر في مدحه للرسول، حيث هذا المدح مِسكٌ تطيب به الروح، وفي نهاية القصيدة يقول:

وَاقبلْ رسولَ اللَّهِ عُذرَ مُقَصِّرٍ         هُوَ إنْ قَبِلْتَ بِمَدْحِكَ المَمْدُوحُ

فِي كلِّ وَادٍ مِنْ صِفَاتِكَ هائمٌ           وَبِكلِّ بَحْرٍ مِنْ نَدَاكَ سَبُوحُ

شَوْقاً إلى حَرَمٍ بَطَيْبَةَ آمِنٍ             طَابَتْ بذلكَ رَوْضَةٌ وضرِيحُ

وهنا يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبل عذره على تقصيره بمدحه له، فهو مجنونٌ بُحِبِّ كلّ صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يشتاق إلى مدينة رسول الله حيثُ ذلك المكان الآمن إذ هو سيكون في الروضة الشّريفة أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويظهر في خاتمة القصيدتين الماضيتين أنّه كان يَود زيارة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول بعدهم أنّه سيتوقف عن التسويف وسيذهب، ونظم يقول:

فلأقطعنّ حبالَ تسويفي التي           منعت سوايَ إلى حماه وصولًا

ولأمنعنّ العينَ فيه منامها            ولأجعلنّ لها السُّهَادَ خليلًا

هنا يقول الشّاعر إنه سيقطع حبال تسويفه التي تجعله يُؤَجِل الذهاب إلى مدينة رسول الله، ولن يستطيع النوم مطمئنًا حتى يذهب إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظَلَّ البوصيري هكذا إلى أن كتب آخر قصيدة له في المدائح النبوية قبل سفره لرحلة الحج، قصيدة عارض بها الصّحابيُّ الجليلُ كعب بن زهير بن أبي سُلمى، وأسماها “ذخر المعاد في معارضة بانت سعاد”، ويقول في مطلعها:

إلى متى أنتَ باللذاتِ مشغولٌ         وأنت عن كلِّ ما قدمتَ مسؤولٌ

في كل يوم تُرَجَّى أنْ تتوبَ غدًا        وعقدُ عزمِكَ بالتسويفِ محلولٌٌ

ثم يمدح رسولَ الله فيها فيقول:

والمصطفى خيرُ خلقِ اللهِ كْلِّهِمُ        لهُ على الرُّسلِ ترجيحٌ وتفضيلٌ

محمّدٌ حُجَّةُ اللهِ التي ظهرتْ              بسُنَّةٍ مالها في الخلقِ تحويلُ

وعندما عزم على السفر للحجاز، للذهاب لرحلة الحج نظم قصيدةً مطلعها

سارتِ العِيسُ يَرجعنَ الحنينا           ويُجَاذبنَ من الشَّوقِ البُرِينا

دامياتٌ مِنْ حَفِيِّ أخفافِهَا                تقطعُ البيدَ سهولًا وحزونًا


يصف في هذه الأبيات سير الجمال البيضاء وهي تأخذه إلى الأراضي المقدّسة، سارت العيس يرجعن الحنينا والحنين هو صوت الناقة إذا حنّت، فهي تردد ما يظهر منها أنّها تحن إلى نهاية الطريق حيث بلاد الحجاز، وتجذب من الشوق البُرين، والبُرين جمع بُرَّةٍ وهي حلقةٌ تُوضَعُ في أنفِ البعيرِ، ويُشَدُّ بها زِمَامُه، وأثناء سيرها تُدمَى من حفا أخفافها في الصحراء الطويلة وهي تحذو بين السهول، فالمقصد الكامل هنا من البيتين أنّه على الرغم أن الدم يسيل منها، ورغم بعد المسافة، ورغم جذب راكبيها لزمامها، ورغم كل تلك المشقات هي تردد ما يعبر عن حنينها لبلاد الحجاز فلا تشعر بأي صعوبة أو مشقة.

بعد وصوله إلى المدينة المنورة

وصل البوصيري إلى الحجاز قبل بداية مشاعر الحج، فقرر أن يذهب إلى المدينة المنورة لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظم البائيات الثلاث، مطلع أولهن:

وَافاك بالذنبِ العظيمِ المُذْنِبُ             خَجِلاً يُعَنِّفُ نفسَهُ ويُؤَنِّبُ

ومطلع ثانيهن:

بِمَدْحِ المصطفى تَحيا القلوبُ                وَتُغْتَفَرُ الخطايا وَالذُّنوبُ

ومطلع ثالثهن:

أزمَعوا البَيْنَ وَشَدُّوا الرِّكابا                 فاطلب الصبرَ وخَلِّ العِتابا

والأخيرة أنشدها وهو يجمع ركابه ليرجع إلى مصر، لكنه لم يتوقف عن قصائد المديح، هناك قصيدتان لم نتحقق من وقت كتابتهما لكنهما مشهورتان، أولها المحمدية:

مُحَمَّدٌ أَشْرَفُ الأعْرَابِ والعَجَمِ              مُحَمَّدٌ خَيْرُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ

مُحَمَّدٌ باسِطُ المَعْرُوفِ جَامِعُه               مُحَمَّدٌ صاحِبُ الإِحْسانِ والكَرَمِ

والقصيدة المضرية:

يا رَبِّ صَلِّ عَلَى المُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ           وَالأَنْبِيا وَجَميعِ الرُّسْلِ مَا ذُكِرُوا

وَصَلِّ رَبِّ عَلَى الهَادِي وَشِيْمَتِهِ                وَصَحْبِهِ مِنْ لِطَيِّ الدِّينِ قدْ نَشَرُوا


ورجع البوصيري من الحج وما لبث أن نظم قصيدة اعتبرها الكثير من الأدباء أجمل ما كتب البوصيري في المديح النبوي، التي سمّاها البوصيري “أم القرى في مدح خير الورى” والملقبة بالهمزية، ويحكي فيها بالتفصيل عن رحلته أثناء الحج ويستعرض أيضًا مواقف من سيرة الرسول، ويمدح أهل البيت ويمدح أم رسول الله، سيكون حديثنا القادم عن قصيدة الهمزية، وهي أطول قصائد البوصيري، وسنتحدث عن قصيدة البُردة وكل الجدل الذي أثير حولها، وحول قصة إصابة البوصيري بالفالج، ورؤيته الرسول في المنام، ولماذا سُميت بالبردة؟


المصادر

ديوان الإمام البوصيري

www.noor-book.com/كتاب-ديوان-البوصيري-pdf-1614215586

شارك

مقالات ذات صلة