سياسة
في لحظة تعجّ فيها أفريقيا بالتحولات، و تشتد فيها المنافسة بين الكبار على النفوذ في القارة السمراء، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يعقد قمة “مصغّرة” من 9-11 يوليو الجاري مع زعماء خمس دول صغيرة من غرب أفريقيا الساحلية: الجابون، غينيا بيساو، ليبيريا، موريتانيا، والسنغال. قمة أراد لها أن تكون نموذجًا جديدًا للتعاون، لكنّها في حقيقتها، ليست سوى استدعاء مُكرَّر لتجربة أمريكية شاخت، ترتدي قناعًا جديدًا كلما احتدم الصراع مع بكين أو موسكو.
أولًا: رؤية سياسية مشوّشة… وانتقائية تثير الشكوك
سياسيًّا، تعكس القمة روحًا اختزالية تعاملت مع القارة بمنطق التبعيض، خمس دول صغيرة بثقافات ولغات وحساسيات سياسية متباينة، جُمِعَت تحت سقف واحد لا لأنّ بينها مشروعًا إقليميًّا جامعًا، بل لأنّ البيت الأبيض أراد أن يصنع لنفسه صورة القيادة في لحظة تَحَوُّلَات.
كيف لواشنطن أن تدّعي دعم الديمقراطية بينما تُبارك مَسَارَاتٍ سُلْطَوِيَّةً هجينةً، كتلك التي جاءت بالرئيس نغيما في الجابون لكنّها تنتقدها في منطقة الساحل، أو تلتزم الصمت أمام هشاشة المؤسسات في غينيا بيساو؟ هذه الانتقائية لا تبني جسور ثقة، بل تُكرّس انطباعًا قديمًا: أمريكا لا ترى أفريقيا إلا بعيون المصالح. وقد أسهمت تلك الازدواجية في تفتيت ما تبقى من مصداقية خطابها السياسي؛ فهي في آنٍ واحد تدعو للحكم الرشيد وتفتح أبوابها لقادة يتكئون على الشرعية الشكلية.
أما الاقتصادات الإقليمية الكبرى، من نيجيريا إلى كوت ديفوار، فقد تم استبعادها من المشهد، وكأنّ الوزن الحقيقي في أفريقيا يُقاس بسلاسة الانقياد لا بحجم التأثير. هذا وحده كفيل بخلق حساسية لدى الدول المستبعدة، ويُقوّض أي مشروع جاد للتكامل.
ثانيًا: شراكة اقتصادية بلا روح… واستثمار لا يرى الإنسان
اقتصاديًّا، ترتكز المقاربة الأمريكية على شعار “التجارة لا المساعدة”. لكن هذه العبارة التي يُكرّرها ترامب كتعويذة، تُخفي خواءً في الرؤية التنموية. فكيف يمكن أن تقوم شراكة اقتصادية حقيقية دون أرضية صلبة من الخدمات الأساسية، ودون استثمار حقيقي في البنية التحتية والطاقات البشرية؟
مثلًا، تعاني الغابون، بمواردها الغنية من المنغنيز وخام الحديد، من هشاشة في سلاسل القيمة الصناعية. وغينيا بيساو الغارقة في ملفات المخدرات والفوضى، لا تملك أساسًا شبكة اقتصادية قادرة على استقبال استثمارات منتجة. وليبيريا، رغم علاقتها التاريخية بواشنطن، ما زالت تقف على حافة العجز البنيوي، ما لم تُعالِج اختلالات الفساد والتوزيع. ثم إنّ الاقتصاديات الخمسة مجتمعة لا تمثل أكثر من 70 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل اقتصاد دولة متوسطة النمو، كدولة غانا مثلًا. فكيف لمنطقة بهذا الحجم المحدود أن تتحوّل إلى رافعة تجارية في مواجهة التنين الصيني في استراتيجية ترامب الجديدة؟. من المعلوم أنّ بكين لا تكتفي بالشعارات، بل تبني الموانئ، وتربط خطوط السكك الحديدية، وتُقدِّم قروضًا ميسّرة تُغري صانع القرار الأفريقي بالمضي قُدمًا في مشروع واضح.
إنّ الخطأ الجوهري في مقاربة ترامب أنّه لا يرى أفريقيا إلا كسوق مفتوح للسلع الأمريكية، لا كفضاء متكامل للتنمية المستدامة. فبينما تبني الصين خطوط إنتاج وتنقل التكنولوجيا، تعرض واشنطن على أفريقيا استثمارات انتقائية تغلب عليها النزعة الاستهلاكية، دون أي عمق إنتاجي حقيقي.
ثالثًا: الأمن الهشّ وأسطورة “حزام الاستقرار”
استراتيجيًّا، تُقدَّم القمة على أنها خطّ دفاعٍ ناعم في وجه المدّ الإرهابي الذي يضرب قلب الساحل. لكن واشنطن توهم نفسها أنّ تحصين الشريط الساحلي دون معالجة النزيف في الشمال يكفي لتأمين الحلفاء.
إن موريتانيا والسنغال وليبيريا لا تملك الأجهزة الأمنية الكافية للتعامل مع شبكات عابرة للحدود، لا تنتمي لدولة ولا تعترف بجغرافيا. فكيف يمكن تحصين هذه الدول إذا تُرِكَت مالي وبوركينا فاسو تنهاران دون مشروع أُمَميّ شامل كالذي دحر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام؟ كيف يمكن الحديث عن استقرارٍ حين تملأ وتستهدف القاعدة في الساحل والصحراء المناطق الحدودية التي تربط بين دول الساحل وهذه الدول المنتقاة من قبل إدارة ترامب، وتبني قواعدها على بعد مئات الكيلومترات من المراكز الحضرية؟
لا توجد استراتيجية أمنية ناجعة دون عمق إقليمي مشترك، وتنسيق بينيّ، واستثمارات جادة في استخبارات الحدود، وتفكيك اقتصاديات الحرب التي ترعى التطرف. لكن البيت الأبيض اختار الحل الأسهل: صفقات فردية، صور رسمية، وبيانات شكر متبادلة… بلا أثر حقيقي على الميدان.
رابعًا: ملف الهجرة… حين يُختزَل الإنسان في رقم
في ملف الهجرة، تتحرك الولايات المتحدة بمنطق أمني صرف: موريتانيا تُطلب منها مراقبة الحدود، السنغال تُكافَأ حين تضبط القوارب، وغينيا بيساو تُحذّر من عقوبات إذا لم تتعاون. لكن لا حديث عن الأسباب، لا عن الفقر الناتج عن صفقات واشنطن الاستعمارية كالأخيرة مع الكونغو الديمقراطية، لا عن البطالة، ولا عن التهميش المزمن.
ماذا ستقدم استراتيجية ترامب الجديدة الاقتصادية منها والسياسية لشباب السنغال العاطلين عن العمل؟ ماذا طرح على طاولة موريتانيا لتطوير قطاعاتها الزراعية والصناعية؟ لا شيء يُذكر. المطلوب فقط هو وقف المهاجرين عند العتبة، حتى لو كان الثمن كرامة الإنسان الأفريقي. إن مثل هذا الخطاب يُظهر أنّ الإدارة الأمريكية لا تنظر إلى أفريقيا بوصفها فضاءً إنسانيًّا، بل كمعبر يجب ضبطه. وهذا في حد ذاته كافٍ لتقويض أي أمل في شراكة أخلاقية طويلة الأمد.
خامسًا: محاولة احتواء الصين وروسيا… بأسلحة من ورق
أما من الزاوية الجيوسياسية، فواشنطن تتحدث عن مواجهة النفوذ الصيني والروسي، لكنها لا تملك الأدوات. بكين وقّعت صفقات نفطية مع السنغال، بنت الطرق في غينيا بيساو، وتُقدِّم قروضًا لبناء المستشفيات في ليبيريا. موسكو، بدورها تُكثّف تعاونها العسكري والاستخباري، وتفتح أبوابها لاستقبال القادة الأفارقة، وتعرض نفسها كحليف لا يتدخل في الشؤون الداخلية.
أما أمريكا، فَتُقدّم الغداء في البيت الأبيض، وتُرسل وفودًا استثمارية مؤقتة، ثم تختفي حين يشتد المطر. ما تُقدّمه واشنطن لا يتعدى المبادرات الرمزية، في وقتٍ تبني فيه الصين قواعد نفوذ طويلة الأجل، تقوم على المصالح، لا على الإملاءات.
ثم هناك خلل جوهري آخر، تفترض استراتيجية ترامب أن أفريقيا مستعدة لقطع علاقاتها مع الشرق إذا ابتسم الغرب. لكنها تتجاهل أنّ النخبة الأفريقية اليوم باتت تفهم لعبة التوازنات الدولية، وتعرف كيف تلوّح بالبدائل، وتفاوض بأكثر من يد.
خاتمة: ما العمل؟ ومن يكتب السطر التالي في العلاقة الأمريكية الأفريقية؟
إذا أرادت أمريكا أن تعود فاعلًا حقيقيًّا في أفريقيا، فعليها أن تُعيد صياغة خطابها بالكامل. لا منطق الأوامر يصلح، ولا صفقات اللحظة على طريقة ترامب، فالقارة ليست إحدى كازينوهاته أو سلاسل فنادقه. المطلوب شراكة مؤسسية، عبر الأطر الإقليمية كالإيكواس أو تحالفات الساحل الجديدة، ومن خلال دعم جهود الاتحاد الأفريقي، لا تفكيكه.
عليها أن تُراهن على بناء القدرات لا على شراء الولاءات، على المؤسسات لا على الأفراد، على الاستقرار طويل الأمد لا على البهرجة السياسية. والأهم عليها أن تُخاطب الشعوب لا الأنظمة، وأن تستثمر في التعليم والصحة والمياه والطاقة، لا فقط في البترول والغاز، في الوقت الذي تحظر مواطني تلك الدول من أراضيها عبر إلغاء التأشيرات كما في الحزمة الأخيرة.
إنّ استراتيجية ترامب، كما هي، لن تصمد. لأنها اختارت أن تُخاطب أفريقيا القديمة، بينما القارة تمضي نحو نهوض جديد. نهوض لا يرى في الغرب قدرًا، بل خيارًا. وما دامت إدارة ترامب لا ترى هذه الحقيقة، ستسقط استراتيجيتها من المشهد، تمامًا كما سقطت استراتيجيات كل من باراك أوباما وجو بايدن… وذلك ليس تنبؤًا، بل الواقع والوقائع هي التي تصرخ بذلك وبأعلى الأصوات.




