سياسة
بعد انهيار الحكم الأموي سنة 750 للميلاد، افترق الهاشميون إلى عباسيين وطالبيين عشية تولي أبو العباس السفاح سدة الخلافة، كان الطالبيون يعتقدون أن حركة خراسان العسكرية ستوصلهم إلى الخلافة٬ ولكن العباسيين كانوا أوثق صلة بأبو مسلم الخراساني الذي تولى إيصالهم إلى كرسي الحكم، فتحول الفراق السياسي بين الطرفين إلى مواجهات عسكرية، إذ حاول الطالبيون تجميع القوى حولهم مستفيدين من مظلومية حرمان آل البيت من الخلافة التي تكررت على يد أبناء عمومتهم العباسيين، وتحول العداء السياسي والعسكري إلى تحزب عقائدي خلق بعض التمايز المذهبي بين الشيعة والسنة٬ وأصبح العداء بين الطرفين يعلو وينخفض بحسب الوضع السياسي للطالبيين وقوتهم العسكرية.
لم تمنع المواجهات العسكرية والعقائدية في الدولة العباسية خليفة قوياً مثل المأمون من أن يعين ولياً لعهده هو الإمامَ الرضا٬ ثامن الأئمة الإثنا عشرية٬ وقد يكون هذا التقارب الكبير بين الرجلين هو ما أعطى لقباً للإمام الرضا٬ وهو أبو بكر، وإيمانه بالتقارب بين الشيعة والسنة٬ لم يمنع خليفة آخر حكم بعد موت المأمون بـ15سنة يدعى المتوكل أن يأمر بإزالة كل إشارة لقبر الحسين في كربلاء٬ فهدم المقام ومنع الزيارة وكفّر الشيعة، وربما تكون بادرة المتوكل هذه هي التي أشعلت شرارة العداء المذهبي الذي لم يخبُ منذئذ، ووضعت علامات فارقة وواضحة بين الشيعة وبين المذهب السني الذي تعصب له المتوكل وعمل على ترسيخه بإخماد ما يعارضه طوال مدة حكمه، ويمكن أن يؤرخ منذ وفاة المتوكل لانفراط هيبة منصب الخليفة وتحوله إلى شكل من السمعة لا غير.
أدى ضعف منصب الخلافة إلى استقلال الكثير من الأطراف عن المركز٬ كان بعضها شيعياً خالصاً٬ وبعضها مذهب اشتُق من الشيعية٬ ومن الممالك التي لم ترتبط بمركز الخلافة إلا بالاسم فقط، ظهرت دعوة عبد الله الشيعي في أفريقيا، والحسن بن زيد المعروف بالداعي في طبرستان، وابن طباطبا في اليمن، والحمدانيون في الموصل وحلب الذين وصلوا إلى تخوم دمشق، وظهرت ممالك أخرى لكن على مذهب السنة كدولة بنو سامان في ما يعرف بما وراء النهر، ودولة بني الصفار في خراسان وسجستان وهراة، وأحمد بن طولون في مصر والشام، وخلفه محمد بن طغج الإخشيد.
استطاعت إحدى الإمارات الشيعية وهم بنو بويه الذين امتلكوا معظم بلاد فارس وتمددوا نحو العراق٬ السيطرةَ على عاصمة الخلافة بغداد٬ وعزلوا الخليفة المستكفي وعينوا بدلاً منه المطيع الذي وافق هواهم وسار كما يريدون٬ وتلونت عاصمة الخلافة العباسية بألوان الشيعة وتركوا للخليفة مذهبه السني دون أن يمتلك من الأمر شيئاً.
أسس ناصر الدولة الحمداني نواة دولة في الموصل، وسّعها شقيقه سيف الدولة إلى حلب وبدأ بالتوسع جنوباً، وكانت دمشق حلماً يريد أن يضمه٬ فبدأ بالتمدد جنوباً على حساب ممتلكات الدولة الإخشيدية التي كانت منهمكة في الدفاع عن نفسها ضد هجمات الفاطميين الذين وضعوا القاهرة هدفاً نهائياً لهم. توغل جيش سيف الدولة جنوباً ووصل إلى حماة وتحرك يريد حمص، فتواجه مع جيش الإخشيد الضخم الذي يقوده كافور الإخشيدي عند جسر الرستن، واستطاع جيش سيف الدولة هزيمة كافور والتقدم سريعاً نحو دمشق.
ثم أراد سيف الدولة أن يستميل الدمشقيين الخائفين على مذهبهم من الحمدانيين، فأطلق 4 آلاف أسير إخشيدي وأحسن إليهم٬ وبعث رسالة مصالحة إلى دمشق٬ قُرأت في الجامع الأموي وأُرسلت نسخة منها إلى الإخشيد في مصر، بعد ذلك دخل سيف الدولة دمشق في أيار/ مايو سنة 945 م، حاول محمد بن طغج الإخشيد مصالحة سيف الدولة واقتسام دمشق معه٬ ولكن سيف الدولة رفض وهدد الإخشيد، فلعب الإخشيد ورقة المذهبية وكاتب أهل دمشق فوافقوه سريعاً، واستغلوا خروج سيف الدولة لمقاتلة بعض الأعراب، فأغلقوا أبواب المدينة٬ ومع تحرك جيش بن طغج من القاهرة خاف سيف الدولة وهرب شمالاً.
توفي محمد بن طغج الإخشيد رجل الدولة القوي في نفس العام الذي دخل فيها بنو بويه الشيعة إلى بغداد، وورث الحكم من بعده غلامه كافور الإخشيدي كوصي على ابنه أنوجور بن طغج الصغير، استغل سيف الدولة ظروف تبدل الحكم الإخشيدي، ودخل دمشق مرة أخرى في أيلول/ سبتمبر 946، لم يكن الدخول هذه المرة سلمياً٬ فقسى على أهلها وطالبهم بأموال كثيرة وهمّ بمصادرة غوطة دمشق كلها وضمها إلى أملاكه، فكاتب الدمشقيون كافور الإخشيدي واشتكوا إليه أمر سيف الدولة واستبداده بأملاكهم، استجاب كافور وقاد جيشاً اجتاح فيه سوريا كلها وصولاً إلى حلب عاصمة سيف الدولة الذي هرب من وجه كافور إلى الرقة، ولكن الطرفان اتجها إلى الصلح فرجع سيف الدولة إلى حلب على أن ينسى أمر دمشق إلى الأبد.
انكماش الحمدانيين في الشمال وانشغال سيف الدولة مع البيزنطيين ترك دمشق في يد ورثة الأخشيد، الذين لم يهنؤوا فيها كثيراً٬ فقد بدأت هجمات القرامطة بقيادة الحسن الأعصم على دمشق، والقرامطة حركة تمرد ديني واجتماعي ذات سلوك عنيف٬ استطاعت أن تسيطر على قطاعات كبيرة من الجزيرة العربية وأجزاء من سوريا، كانت تعيش بأسلوب ارتزاقي بالتهديد بالهجوم أو الحصول على إتاوات ضخمة٬ وقد خضعت دمشق لهذا الابتزاز لتبقى بعيدة عن النهب القرمطي٬ فكان نائب الإخشيديين على دمشق يدفع كل عام مبلغاً ضخماً إلى أن تغير الحال.
ظهور طلائع الفاطميين في دمشق كان مع وصول القائد جعفر بن فلاح عام 961 ميلادية إليها٬ وقاوم القرامطة تحت قيادة رجل يدعى أبو القاسم بن أبي يعلى الشريف الهاشمي دخول الفاطميين هذا، وأوعز أبو القاسم للمساجد بقطع ذكر الخليفة الفاطمي في الصلاة.. لم تكن المقاومة الشعبية كافية لوقف جعفر بن فلاح الذي دخل دمشق وقبض على أبي القاسم وأسس لوجود فاطمي طويل في المدينة، ولكن لم تتحمل الطبقات الشعبية الفاطميين٬ وقاومت رغبتهم في إحلال المذهب الشيعي مع انتشار الفساد والتعدي على العامة في الطرقات، فأعيد تنظيم المقاومة الشعبية مرة ثانية تحت قيادة رجل يدعى محمد بن عصودا وجرت مراسلات مع الحسن الأعصم٬ القائد العسكري القرمطي٬ الذي أسرع إلى دمشق وبمعاونة شعبية قتل جعفر بن فلاح، ولم يتوقف الأعصم الذي تقدم نحو القاهرة محاولاً زعزعة الدولة الفاطمية ذاتها.
كسب الحسن الأعصم الدمشقيين هذه المرة٬ وقطع الدعوى في المساجد للمعز الفاطمي٬ وهذا الأمر يظهر الهوى المذهبي الشعبي الراسخ لدى سكان دمشق حتى قبلوا بوجود القرمطي بهذا الشكل مقابل الاحتفاظ بمذهبهم٬ ولكن الخليفة الفاطمي لم يستسلم فأعاد الهجوم على دمشق ونجح مرة أخرى بزرع الفتنة بين صفوف القرامطة باستمالة بعضهم، ودخلها مرة ثانية وأعاد سيرته الأولى بالفساد واستهداف الممتلكات والأشراف، لكن دخل عامل جديد على خط دمشق وهو الفتكين التركي أحد قادة دولة بني بويه الذي استطاع القدوم إلى دمشق بمجوعة من الفرسان والسيطرة عليها بمساعدة أهلها، فاستخدم الخليفة الفاطمي الحيلة ليفرق بين الفتكين ومن معه٬ ويعود إلى دمشق المنهكة بعد تغير الولاءات والجيوش المحتلة التي كانت تدخل المدينة راغبة في النهب والسرقة والقتل.
استمرت السيطرة الاسمية للفاطميين على دمشق حتى العام 1075، لم تهدأ خلالها المدينة يوماً واحداً، وقد كانت المئة عام الماضية من أسوأ الفترات التاريخية في حياة هذه المدينة، التي سعت للحفاظ على هويتيها المذهبية بوجه تيارات الفاطميين والقرامطة، وتوقف خلال المئة عام نموها التجاري والاجتماعي بعد شل تطورها السياسي بسبب الحروب المستمرة.
حاول الفاطميون تثبيت حكمهم على المدينة ولكنهم لم يحصلوا على الهدوء نتيجة ثورات المدينة وتدخلات القرامطة والدولة العباسية، وأسهم سوء سلوك الحكام والجنود الفاطميين في انقطاع أواصر الصلة مع الشاميين٬ وكان سوء الإدارة يحصل نتيجة وجود حكام غير قادرين على ضبط الأمور فبطشوا حيناً ووجهوا للإيقاع بالعامة أحياناً، واستمر الحال كذلك حتى وصول التركمان السلاجقة، الذين دخلوا بعد معركة كبيرة أجهزت على المدينة التي لملمت جراحها واستعدت لمرحلة تاريخية جديدة.