Blog
لطالما توقفتُ متأملًا في رمزية الشعارات التي ترفعها الدول، وفي مغزى تلك الألوان والرموز التي تزيّن الأعلام والشعارات الرسمية لتلك الدول وما تحمله من حقائق واقعية و مصادمات واقعية، فمنذ القدم، لم تكن هذه الرموز مجرد زخارف أو تفاصيل فنية، بل كانت تعبيرًا عميقًا عن هوية الدول ورسائلها السياسية والاجتماعية وحتى الروحية لشعبها و للأمم الأخرى، فنجد مثلًا في التاريخ العربي والإسلامي، كان لكل دولة راية تعكس فلسفتها وشخصيتها، فالأمويون رفعوا الراية البيضاء رمزًا للصفاء وبداية عهد جديد ، والعباسيون اتخذوا السواد شعارًا للثورة والهيبة، والسلاجقة الأتراك استخدموا رموز النّسور والطّيور الجارحة تعبيرًا عن القوة والشجاعة ، أمّا المماليك فقد جعلوا من الأسود والتنين رمزًا للمهابة العسكرية والسلطة ، و العثمانيون كذلك جمعوا بين الهلال والنجمة في شعارهم ليجسدوا الربط بين الدين والسياسة.
فهذه الرموز كانت تعكس واقعًا حيًا تريد أن تعيشه تلك السلطات و الحكومات، فالقوة، والعدل، والانتصار رموز حقيقية تصنع مشروع حضاري واضح لمن يتبناها ولم تكن الشعارات إدعاءات معلقة في الهواء أو معزولة عن حياة الناس.
وفي عصرنا الحديث ومع ولادة الجمهوريات العربية الحديثة، طغت موجة من «الرموز الجوفاء» التي حملتها تلك الدول في أعلامها وخطاباتها في أعقاب استعمار غربي لمقدراتنا العربية ، وجدناها رموزاً ضخمة في الشكل، فارغة في المضمون ، نُسُورٌ ترفرف فوق الأقمشة لكنها لا تحلّق فوق أوطانها، ونجومٌ تضيء في زوايا الأعلام لكنها لا تنير دروب الشعوب العربية المقهورة، وألوانٌ ثلاثية ورباعية تُمجّد الحرية والعدالة والوحدة، بينما الواقع يغرق في استبداد، فقر، وتشرذم عربي.
فقد رفعت جمهورية عبد الناصر شعارات «الوحدة العربية» و«الاشتراكية» و«العدالة الاجتماعية»، بل رُسمت على الأعلام رموز النسور القوية والألوان الحماسية، لكن سرعان ما تحوّلت هذه الشعارات إلى مجرد غطاء لفظي لسلطة فردية أخفقت في تحقيق الوحدة، وأدخلت الشعوب في سلسلة من الهزائم والخيبات. أما النّسر ظل على العلم، لكنه لم يحلّق في سماء النصر.
وجمهورية العراق كذلك في عهد صدام حسين، التي رفعت شعار «الله أكبر» على علمها، وأحاطت نفسها بالرموز القومية والعسكرية، لكنها أدخلت البلاد في حروب مدمّرة كان بمقدوره أن يتجنبها فجنى عقوبات أنهكت المواطن العراقي البسيط، والجمهورية الليبية تحت حكم القذافي، حيث اُستُبدلت الرايات بألوانٍ موحّدة وأشكالٍ رمزية لا تحمل معنى حقيقي سوى تكريس حكم الفرد الواحد ومشروعاتٍ لم تُثمر.
وما زالت اللعبة تتكرر، فالشعار قوي، والطائر جارح، و اللون جميل … لكن الواقع هشّ، والجمهوريات تحوّلت إلى جدرانٍ بالية طُليَت بالرموز، بينما داخلها كانت الأزمات بأنواعها تتفاقم.
فهذه الرموز، حين تنفصل عن قيام مشروع وطني حقيقي أو قيادة مخلصة، تصبح مثل قشرة لامعة تغطي خواءً ودمارًا داخليًا.
وفي خضم حالة الجمود الرمزي التي طغت على شعارات كثير من الجمهوريات العربية، برزت رؤية جديدة نخشى أن تصبح كمثيلاتها و هي رؤية الرئيس السوري أحمد الشرع في إعادة صياغة الصورة النّمطية لشعار الجمهورية السورية، حيث أعاد تعريف العقاب السوري ليصبح رمزًا للكرامة والسيادة الوطنية، لا مجرد طائر يُستنسَخ كما في شعارات أخرى، كما منح النجوم الثلاث دلالات جديدة تعبّر عن وحدة الشعب وثبات الموقف والأمل في المستقبل.
ولكن لا معنى لهذه الرؤية إلا إذا استطاعت التحوّل إلى واقع ملموس يشعر به الناس في سوريا في حياتهم اليومية ، فالشعار الجميل الذي لا يُترجَم إلى فعل يبقى مجرّد قشرة شكلية، بينما الرمز الحقيقي هو ما يصنع التغيير الواقعي ويمنح الشعوب أملًا جديدًا ، وهذا ما يُنتظر من القيادة السورية الجديدة.





