مجتمع

شهداء الأمن العام في الساحل السوري.. وذاكرة العدالة الانتقائية

يوليو 4, 2025

شهداء الأمن العام في الساحل السوري.. وذاكرة العدالة الانتقائية

بعد سنوات من الثورة السورية التي قادها الشعب السوري لأكثر من 14 عاماً تقريباً، والتي كُللت أخيراً بالنصر وسقوط نظام أسد البائد، والذي قاد أكثر الحملات قمعاً في تاريخ سوريا الحديث، ليبدأ السوريون يخططون لبناء بلدهم بتطلعات متفائلة تقوم على المصالحة الوطنية والعدالة المتوازنة بمحاسبة كل مجرمي الحرب الذين تلطخت أيديهم بقتل الشعب السوري الأعزل.

 

 

وفي هذا السياق، اختارت الحكومة السورية الانتقالية أن تمنح المناطق الساحلية، رغم ما ارتُكب فيها من انتهاكات بحق أبناء المحافظات الثائرة، فرصةً للتعافي، من خلال تعيين عناصر أمنية من مناطق المعارضة السابقة لإدارة شؤون الأمن المدني، تأكيداً على أن “سوريا للجميع” لم تعد شعاراً سياسياً، بل سياسة فعلية.

 

 

لكن الواقع لم يَسر كما توقّع كثر، ففي الأشهر التي تلت تحرير سوريا من آلة الإجرام الأسدي، بدأت سلسلة من الاغتيالات الممنهجة تطال عناصر الأمن العام، معظمهم من أبناء إدلب وحماة وحلب وريف دمشق، ممن اختاروا أن يتركوا خيام النزوح ويخدموا في بيئة لطالما كانت مغلقة ومعقّدة، استُشهد العشرات منهم في كمائن وحوادث غامضة، قبل أسابيع من شهر رمضان الفائت، دون أن تُعلن أي جهة مسؤوليتها، ودون أن تُفتح تحقيقات دولية شفافة تُنصفهم كما تفتح تلك الجهات الدولية التحقيقات على أي حدث عابر محتمية تحت ذريعة الأقليات، أو حتى تُكرّمهم بوصفهم من شهداء الواجب.

 

في الوقت نفسه، بدأت تظهر تقارير وتحقيقات صحفية غربية، بعضها صدر عن وكالات كبرى كرويترز والتي عُرضت على كثير من القنوات ليس آخرها الـ DW الألمانية، لتسلط الضوء على ما وصفته بانتهاكات ارتكبها مقاتلون من الجيش السوري الجديد بحق أفراد من أبناء الطائفة العلوية في الساحل “التي لم ترضِ حتى أبناء الثورة نفسهم” لتغيّب في الوقت ذاته أسماء شهداء الجيش والأمن العام الذين كانوا هناك لحماية المدنيين، لا للثأر منهم.

 

هذا الانتقاء في الذاكرة والسرد يثير تساؤلات كبرى، لماذا يُذكر البعض كضحايا بينما يُنسى آخرون؟ هل العدالة اليوم تُوزَّع حسب الهوية؟

 

 

 

من هم شهداء الأمن العام بعد التحرير؟

 

مع دخول البلاد مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد البائد في أواخر عام 2024، واجهت الحكومة الانتقالية تحدياً بالغ الحساسية تمثل في إدارة الأمن في المناطق الساحلية، التي كانت لعقود معقلاً سياسياً وعسكرياً لنظام الأسد البائد، وقد اختارت السلطات، ضمن مسار المصالحة، تكليف وحدات من “الأمن العام” بتولي المهام الأمنية المدنية في تلك المناطق، لم يكن هؤلاء العناصر من خلفيات مجهولة أو مليشياوية، بل كانوا بمعظمهم من أبناء محافظات سورية عانت التهجير والنزوح طوال سنوات الثورة على يد آلة الإجرام الأسدية، مثل: إدلب، حماة، حلب، حمص وريف دمشق ودير الزور وغيرها، وبعضهم وُلِد في المخيمات، وعاش في ظروف نزوح قاسية، ثم عاد إلى الخدمة في الدولة التي حلم بها ما بعد الأسد إيماناً منه بأن العدالة لا تكتمل إلا بتثبيت الاستقرار في كل الجغرافيا السورية، بما فيها المناطق التي اعتُبرت يوماً حصن نظام الأسد وأدواته.

 


هؤلاء الأمنيون لم يدخلوا الساحل كقوة اقتحام، بل جهاز مدني أمني منظّم، كُلّف بمهمات محددة تتعلق بتنظيم المرور، حماية الدوائر الرسمية، تأمين الأسواق، فض النزاعات، وحماية الممتلكات العامة والخاصة، وكان هدف وجودهم واضحاً: تعزيز الثقة بين مكونات المجتمع، وتطبيق القانون بعيداً عن روح الانتقام.

 

 

لكن تلك الرسالة لم تجد طريقها إلى القبول من جميع الأطراف، ففي الأشهر التي تلت الانتشار، بدأت سلسلة من الاغتيالات الغامضة تطال عناصر الأمن العام في اللاذقية، جبلة، طرطوس، القرداحة، وبانياس، وتم تنفيذ معظمها عبر كمائن مسلحة، عبوات ناسفة، أو إطلاق نار مباشر على الدوريات، ورغم تسجيل أكثر من 642 شهيداً من عناصر الأمن العام خلال النصف الأول من عام 2025، لم تُفتح تحقيقات جدّية في هذه الحوادث من قبل نفس الجهات الدولية التي تقف في ساحة الأقلية وغيرها، ما أثار تساؤلات عن دور فلول النظام السابق، والمليشيات غير المنضبطة، والشبكات الطائفية المحلية التي رفضت مبدأ “الأمن للجميع”.

 

 

اللافت أن هؤلاء الشهداء، رغم كونهم أول من خاض تجربة المصالحة على الأرض، لم يُذكروا في تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، ولم يُسلّط عليهم الضوء في الإعلام العالمي، مقارنة بتغطيات خصصت لضحايا من الطائفة العلوية أو لجرائم متفرقة وُضعت في سياقات ضبابية، كما ذكرنا بداية المقال، وبينما كان يُفترض أن يكون حضور هؤلاء الأمنيين رسالة سياسية ووطنية بأن الدولة الجديدة لا تُقصي أحداً، تحوّل استهدافهم إلى مؤشر على أن النظام قد سقط، لكن بعض أدواته وأحقاده ما تزال فاعلة، وخارج المساءلة.

 

 

ماذا تقول التقارير عن عمليات الاغتيال في الساحل؟

 

قبل شهر رمضان 2025، شهد الساحل السوري تصاعداً في موجة اغتيالات استهدفت عناصر الأمن العام في اللاذقية، جبلة، طرطوس، والقرداحة، بدأت الهجمات بكمائن مسلحة أودت بحياة أكثر من 15 عنصراً في جبلة، إضافة إلى مقتل 14 عنصراً في كمين بطرطوس في كانون الأول/ ديسمبر 2024، وتشير التقديرات إلى أن عدد شهداء الأمن العام في الساحل تجاوز 642 خلال فترة قصيرة حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، رغم هذه الخسائر، لم تُفتح تحقيقات شفافة تكشف عن الجناة، وبقي الصمت الرسمي سيد الموقف، وفي المقابل ركّزت وسائل الإعلام الدولية على انتهاكات طالت المدنيين من الطائفة العلوية، متجاهلة شهداء الأمن العام الذين عملوا لتثبيت الأمن في مناطق كانت سابقاً معاقل للنظام، وهذه الانتقائية في التغطية تعكس ازدواجية المعايير وتطرح تساؤلات حول مدى التزام المجتمع الدولي بالعدالة الشاملة لجميع الأطراف.

 

 

هل تُبنى العدالة على إنكار بعض الضحايا؟

 

وفي الوقت الذي أجرت فيه وكالة “رويترز” تحقيقاً استقصائياً مفصلاً عن مجازر طالت أفراداً من الطائفة العلوية في الساحل السوري، ركزت فيه على الجرائم التي ارتكبها الجيش السوري الجديد، وأذرعه، أبدى التحقيق تهماً صريحة ضد هؤلاء المقاتلين، مع إبراز معاناة المدنيين العلويين من العنف، لكن اللافت أن هذا التحقيق، رغم أهميته، لم يشر إلى حقيقة أكبر وأوسع بكثير، وهي أن أكثر من مليون سوري قضوا خلال الحرب على يد نظام الأسد ذاته، عبر القصف المدفعي، والصواريخ، والتعذيب في السجون، وعمليات الإخفاء القسري، في ظل تجاهل شبه كامل من المجتمع الدولي ووسائل الإعلام الغربية، كذلك لم يُلقَ الضوء على مأساة أكثر من 10 ملايين مهجر داخل سوريا وخارجها، أو على التدمير الهائل الذي طال أكثر من  70% من أراضي السوريين ومدنهم، على يد المليشيات والجيش الذي يمثل ذات الطائفة العلوية التي يحاول التحقيق تصويرها ضحية فقط دون إظهار الحيادية فيه.

 

 

هذه الانحيازات في التغطية تشكل جزءاً من ذاكرة انتقائية تُغيب ضحايا الثورة الحقيقية، وتُشرّع لمفهوم عدالة جزئية تقوم على سرديات محددة، ترفض أن تحتضن كل السوريين بمآسيهم المختلفة، فالعدالة الحقيقية لا يمكن أن تُبنى إلا بالاعتراف بكل الضحايا، بلا تمييز، وبنظرة شاملة تشمل شهداء الأمن العام الذين قُتلوا أثناء تأدية واجبهم في مناطق مثل الساحل، والمدنيين الذين دفعوا الثمن الأكبر في مناطق الحرب، بدون هذا الاعتراف الشامل، تبقى العدالة ناقصة، وتستمر جراح السوريين مفتوحة، تعاني من غياب الإنصاف والتكافؤ في سرد التاريخ الوطني.

 

 

ورغم أهمية توثيق أي انتهاك، خاصةً بحق مدنيين، يغيب السياق الأشمل ما يطرح علامات استفهام، فالتحقيق تجاهل أن هؤلاء الضحايا كانوا جزءاً من بيئة دعمت نظاماً متورطاً في قتل أكثر من مليون سوري بين عامي 2011 و2024، معظمهم من المدنيين، بينهم أطفال ونساء، وفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR)، كما أغفل التحقيق ذكر مجازر أكبر بكثير لم تُفتح فيها أي تحقيقات دولية جادّة، مثل مجزرة الكيماوي في الغوطة، أو مجازر حلب وحمص ودرعا، وأهمها ملف المعتقلين والمختفين قسراً، الذين يُقدّر عددهم بأكثر من 135 ألف  شخص.

 

 

في المقابل، أغفل تحقيق رويترز الإشارة إلى شهداء الأمن العام الذين قُتلوا في المناطق نفسها خلال أدائهم لواجبهم، هؤلاء العناصر، القادمون من إدلب وحماة وريف دمشق، سقطوا في كمائن واغتيالات خلال آذار/ مارس وأيار/ أبريل 2025، وبلغ عددهم نحو 642 شهيداً، بحسب تقارير ميدانية وشهود عيان، هذا الإغفال يعيد طرح سؤال محوري، هل العدالة انتقائية؟


وهل يمكن تسليط الضوء على ضحايا طرف واحد، بينما تُطمَس جرائم طالت مئات آلاف السوريين على مدى أكثر من عقد؟

شارك