سياسة
حين نستحضر الطائفية في سوريا لا نستحضر مجرد انقسام اجتماعي عابر، بل نستعيد تكويناً ميتافيزيقياً يتجاوز زمن الدولة الحديثة ليُعانق بنى ذهنية غائرة في الوعي الجمعي؛ بنى تختلط فيها الأسطورة بالدستور، والعقيدة بالمؤسسة، والدم بالنص. ومثلما اعتبر الفيلسوف الألماني هيغل أنّ الدين هو “الحقيقة في شكلها الشعبوي”، يمكننا القول إنّ الطائفية في بلاد الشام شكّلت “حقيقة سياسية” تلبس رداء المقدّس، لتضفي الشرعية على سلطة تتذرّع بحماية الجماعة، وهي في الواقع تحرس امتيازاتها. هذه القراءة تعود بنا إلى ما قبل تأسيس الكيان السوري المعاصر، إذ كانت السلطنة العثمانية ترعى تعدّد مللٍ وطوائف متعايشة ظاهرياً، لكنها رسّخت نظام الامتيازات الذي كرّس “الطوائف – الدول” داخل الدولة، فصارت الطائفة أداة إدارة ومراقبة أكثر منها رابطة إيمانية.
مع نهاية العهد العثماني وتفكّك الرجل المريض، بدا الانتقال إلى دولة المواطنة حلماً يلوح في أفق وعود الاستقلال. غير أنّ الانتداب الفرنسي أعاد إنتاج المنطق العثماني بوسائل حداثية؛ فأنشأ دويلات طائفية (علوية، درزية، سنية) رسّخت خريطة الفسيفساء على حساب تصوُّر وطني شامل. وعندما وُلدت الجمهورية السورية عام 1946 كان إرث التجزئة متجذّراً في عمق الإدارة والجيش، فغدا التنافس على السلطة تنافس جماعات، لا تنافس برامج، وتسرب الخطاب الطائفي إلى اللاوعي السياسي حتى حين كان يُعلن شعارات قومية وعلمانية.
جاءت ثورة البعث عام 1963 لتعلن طيّ صفحة الانتماءات الضيقة لصالح “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة”، لكن البعث لم يُلغِ الطائفية، بل أعاد ترتيبها داخل بنية السلطة؛ إذ شرع في بناء “دولة الأجهزة” التي احتاجت إلى قاعدة اجتماعية ضيّقة تضمن لها الولاء المطلق. وهنا صعد الضباط العلويون، الذين، وإن لم يمثلوا كل الطائفة، فقد استفادوا من شبكات قرابية ريفية لتثبيت النفوذ داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، وحين وصل حافظ الأسد إلى الحكم عام 1970، اضطُر إلى التوفيق بين خطاب قومي وحدوي وبين معادلة داخلية تضمن تماسك النظام عبر الامتيازات التراتبية: علويون في المواقع الحساسة للأمن، وأقليات مسيحية ودرزية في وظائف إدارية ثقافية، وأغلبية سنية تُغرى بريع الاقتصاد المنفتح جزئياً أو تُجابه بقمع أمني إن تمرّدت. هكذا صارت الطائفية بنية ميتافيزيقية تحتية للنظام، تستحضر المظلومية التاريخية تارة، وتهديد الفوضى الطائفية تارة أخرى، لتحمي ذاتها بحجة حماية الجميع.
اتخذت الأزمة السورية بعد 2011 تلك البنية المطمورة وكشفتها للعلن. حين خرج المتظاهرون بشعار “واحد، واحد، واحد… الشعب السوري واحد”، كانوا يدركون أنّ وحدتهم هي الترياق الوحيد أمام سمّ التجزئة. لكن العنف المضاد، مدفوعاً بخطاب حماية الأقليات، سرعان ما أعاد إنتاج الاصطفافات القديمة. تسلّح النظام بخطاب “العلمانية المهدَّدة”، وتسلّحت بعض الجماعات المعارضة بخطاب الأكثرية المظلومة أو العودة للخلافة، فانهار فضاء المواطنة لصالح جغرافيا ملونة بالرايات والعرق والدم. في هذه اللحظة بلغ تجذّر الطائفية عمقاً ميتافيزيقياً: صار الانتماء يقاس بحدود الدم والأرض، لا بالموقف الأخلاقي أو المشروع السياسي.
إنّ قراءة الطائفية كميتافيزيقا سياسية في سوريا تُحيلنا إلى 3 طبقات مترابطة. الطبقة الأولى طبقة الذاكرة المأزومة حيث تستعيد كل جماعة سردية ظلمٍ تاريخي يبرر حاضرها. والثانية طبقة المؤسسة المتشظية إذ تُدار أجهزة الدولة بمنطق الحصة الطائفية غير المعلَن، فتُزرع الشكوك بين المواطنين وتُحبط أي رقابة متبادلة. أما الثالثة فهي طبقة اللاوعي الجمعي حيث تتسلل الصور النمطية إلى لغة الإعلام والنكات الشعبية والتربية المنزلية. وهكذا تتماهى الطائفة مع الذات حتى يصعب تصور الحياة خارجها، وتصبح سر الحياة حسب تعبير برغسون، لكنها سر مسيّس يسكن البُنى لا الأرواح فحسب.
فما السبيل إلى تفكيك هذه المعضلة التي تبدو قدراً؟ أوّلاً، لا بد من مواجهة الاشتقاق الميتافيزيقي نفسه، بأن نُفكِّك اللغة التي تقدّس الطائفة بوصفها كياناً أزلياً. ويتطلّب ذلك إصلاحاً تربوياً يقدّم سردية وطنية تقوم على التعددية الدستورية لا على «التعايش» الاستعراضي. ثانياً، ينبغي إعادة بناء الدولة على أساس المواطنة القانونية وتوزيعٍ عادل للسلطة عبر اللامركزية الإدارية؛ فاللاطائفية لا تعني إبادة الاختلاف بل تحويله من حالة كينونة مطلقة إلى خيار سياسي يخضع للتداول السلمي. ثالثاً، العدالة الانتقالية شرط غير قابل للتأجيل، فيجب إنشاء هيئة مستقلة تكشف الانتهاكات وتحاسب المسؤولين بصرف النظر عن خلفياتهم، لأن الإفلات من العقاب هو الوقود الأشد فتكاً لتوارث الأحقاد.
إضافة إلى ذلك، ثمة بُعد اقتصادي بالغ الأهمية، إذ أثبت تاريخ لبنان والعراق أن حرمان المناطق من التنمية يدفع الشباب إلى الاحتماء بالمليشيات أو شبكات الطائفة. لذلك يجب اقتراح عقد اقتصادي وطني يضمن توزيعاً تنموياً يخفّف التفاوت بين الساحل والداخل، وبين المدن والريف. ويُرفق هذا العقد ببرنامج تمويل دولي لإعادة الإعمار يرتهن بالحوكمة الشفافة، فيقطع الطريق على تحويل المساعدات إلى ريعٍ طائفي يغذي أمراء الحرب، ولا يغيب عن المشهد دور المجتمع المدني المستقل، الذي ينبغي أن ينتقل من منطق “المنظمات المانحة” إلى بناء شبكات وطنية تتجاوز الخرائط التقليدية للانتماءات، مستفيدة من التكنولوجيا لإدارة مبادرات مشتركة عابرة للهويات الضيقة.
أخيراً، تبقى الثقافة والفن مختبرين جوهريين لتفكيك الميتافيزيقا الطائفية. فالمسرح والرواية والسينما قادرة على إنتاج مسافة جمالية تساعد الجمهور على إعادة النظر في المسلمات، ويكفي أن نذكّر بتجربة سعد الله ونوس الذي عرّى الاستبداد في تسعينيات القرن الماضي بلغة رمزية تجاوزت الرقابة. وفي العصر الرقمي، تمثل منصات السرد التفاعلي (بودكاست، رسوم غرافيكية، ألعاب فيديو) أدوات هائلة لإعادة كتابة القصة السورية بمنظور تشاركي يقطرُ ثقةً جديدةً في إمكانية العيش المشترك.
في المحصلة، ليست الطائفية قدَراً جغرافياً ولا لعنةً لاهوتية؛ إنها منظومة مصالح موشّاة بخطاب مقدَّس، تستمد قوتها من خوفٍ متبادل واستبدادٍ متوارث. تفكيكها يبدأ بالاعتراف بعمقها الميتافيزيقي كيلا نكتفي بالحلول التقنية، ويمر عبر إصلاح دستوري واقتصادي وعدلي يعيد بناء رابطة المواطنة على أسس المساواة والمساءلة والكرامة. عندها فقط يمكن لسوريا أن تتحرّر من دورات العنف الطائفي، وتسترد مكانتها التاريخية كأرض تفاعلٍ حضاري لا ساحة جبهات متحاربة. هكذا يغدو سؤال “مَن أنت؟” عتبةً لاختبار قيمٍ مشتركة، لا سيفاً يُشهر كلما هزّ العرش قلقٌ أو تململت نخبةٌ من خوف الزوال.