Blog
من ميدان التحرير إلى الإبادة: هل اصطدمت الأحلام بقسوة الواقع؟
في هذا الوقت من كل عام، تعود ذكرى ٣٠ يونيو وما تبعها من أحداث ٣ يوليو، فتحضر معها نقاشات مريرة حول الثورة، والانقلاب، والأمل الذي تبخّر، وحول إن كان موقف ٣٠ يونيو صائبًا أم لا. لكن هذا العام كالعام السالف للأسف، لا تزال الرؤوس في غزة تحت المقصلة ودماؤها تسيل وسط صمت عربيّ خانق.
في خضم كل هذا، نحتاج أن نسأل أنفسنا سؤالًا أعمق من ٣٠ يونيو و٣ يوليو: هل أخطأنا أم أصبنا حينها؟ بل علينا أن نسأل سؤالا أعمق من ذلك عن مبدأ التغيير الجذري، سواء كان ثورات أو مقاومة مسلحة ليس نظريًا، بل بواقعية منطقتنا، وما يحكمها من جغرافيا ووكيل استعماري مزروع بداخلها، مع ما يتطلبه التغيير الجذري من مواجهة تلك المطامع، التي لم تعد محلية أو محدودة، بل أصبحت هي النظام العالمي؛ فهل نختار تحدي النظام العالمي بأسره، أم العمل في ظله وإطاره؟
وبناء عليه، هل أصبنا عندما نزلنا إلى الميادين…عندما حلمنا؟ هل كنّا نطلب ما لا نقدر عليه، ولم ندرك مداه — من ميدان التحرير إلى الطوفان؟
المقاومة المسلّحة في غزة، والثورة في مصر وفي الربيع العربي عمومًا كانوا من أشكال التغيير الجذري. أغلبهم رفعوا صراحًة أو ضِمنًا شعار التحرر من التبعية الإمبريالية، والخضوع لإسرائيل. فلسطين كانت دائمًا رمز هذا التحرّر وغاية هذا الحلم.
لكن اليوم، بعد المجازر والإبادة، وبعد سنوات من الانكسار السياسي والانهيار الاقتصادي والنسيان في السجون والمقابر، علينا أن نسأل: هل كنّا أصلًا، في أي وقت، مستعدّين فعلًا لدفع كلفة مواجهة إسرائيل؟ وإن لم نكن، فماذا يعني أن نواصل رفع شعارات لا قدرة لنا على تحقيقها؟ والتصفيق للمقاومة لتظن أننا معها؟
أسأل هذا ليس من باب الفلسفة الباردة، بل من باب واقع ساخن يحترق به أهل غزة. فهل كان واقع الطوفان منفصلا عن واقع الثورات وحلم التغيير الجذري؟
أسأل هذا، بعدما بدأ يتجلى لي شيء مريع مرعب. أننا لسنا متفرجين من وراء الشاشات لعجزنا أو قلة حيلتنا.
إن مواقفنا لا تختلف عن مواقف دولنا أو حكامنا.
ففي مصر، لا تطالب المعارضة سواء الإسلامية أو المدنية بدعم المقاومة بشكل فاعل حتى إن اقتصر دورها على الحرب، أو تحريك الجيش لإنشاء منطقة لحماية غزة في الجنوب، أو تعليق معاهدة كامب ديفيد بعد ما خرقتها إسرائيل حين دخلت محور فيلادلفيا، أو حتى قطع العلاقات الاقتصادية تمامًا.
وفي الأردن، نجد تناقضًا مشابهًا. فبينما يُعبّر الإخوان وتيارات المعارضة عن دعمهم المبدئي للمقاومة، لم يمنع ذلك دعمهم لموقف الدولة في إحباط الصواريخ الإيرانية التي استهدفت إسرائيل، تحت شعار الحفاظ على “أمن الأردن”. وهكذا يتكرّر المشهد: شعارات كبيرة، ومواقف أمنية إما داعمة لإسرائيل أو مضيقة الخناق على غزة.
أما المعارضة العربية في الخارج خصيصا في إسطنبول أو الدوحة، فهي لا تضغط بشكل جدّي على الدول المستضيفة لها لاتخاذ مواقف عملية، كقطع العلاقات أو فتح الجبهات. بل كانت لحظة قصف إيران لقاعدة العديد في قطر كاشفةً لكل من كان يصرخ ضد أميركا، ثم صمت.
حتى نحن المقيمون في الدول الأمريكية أو الأوروبية. ربما يعلو صوتنا بهذا المطلب أو ذلك، وهذا لا يخلو من مفارقة أننا في أمان شبه تام حتى وإن سجنا، فلن تقصف أوطاننا ولن يكون أبناؤنا في خطر داهم.
المأساة تكمن ليس في عجزنا كأفراد أو دول، ولا في خذلاننا بل في عجزنا عندما نقف أمام المرآة، ومواجهة أنفسنا. هل نوافق حقيقة وضمنيا على مسارات حكامنا المختلفة، ولفعلنا من الابتعاد عن غزة كما فعلوا؟ هل لسنا مستعدين لمواجهة المنظومة العالمية كما تخيّلنا؟ ولسنا قادرين على دفع أثمان المواجهة الجذرية. ربما وجدنا أننا كنا لنواجه إن كان بإمكانياتنا. لربما صدمنا بقلة إمكانياتنا أو بوحشية الاحتلال المفرطة. لربما فهمنا تعقيد الواقع الجيوسياسي. بأن مصر إن حاربت أو تصدت وحدها ستتركها الشقيقات، وكذا قطر. ولربما أيضا لجارت عليهما الشقيقات. ولربما الشقيقات جارت أيضا خوفًا هي الأخرى. لا أعرف ما أدرك كل منّا سواء من دولته الأم، أو من دولته الحاضنة.
لا نستطيع لوم أحد. ولا لوم أنفسنا، كلنا شهدنا الدمار في غزة وتقطيع الأطفال أشلاء. فلنعترف ولو لمرة نحن خائفون، ومن حقنا أن نخاف. الكثير منّا ضحى وأغلبنا، بل إننا معارضين ومؤيدين قد عانينا جميعًا. سواء على الصعيد الاقتصادي أو الحريات أو حتى من شعور الذل والانكسار. إن ذلك هو حال أوطاننا.
لكن أعتقد ونحن نرى غزة تُذبح من الوريد إلى الوريد أقل شيء نفعله أن نقف أمام المرآة ونقوم بهذه المصارحة المؤلمة.
بعد مظاهرات أهل غزة أمعنت بالاستماع إليهم. وجدت منهم كلاما عاقلا ومترويًا رغم ماهم فيه. منهم من يتفهم ولا يلومنا، ومنهم من يشير إلى مصرنا ويقول “فلتحكمنا مصر صاحبة النفس الطويل في السياسة”، ومنهم من قال لائمًا على المقاومة “لماذا تقولون خذلوكم؟ ماذا وعدوكم؟ أو فعلوا من قبل، ولم يفعلوه الآن”. ومنهم أيضا من يرى أننا حافظنا على أوطاننا ولم نرم بها إلى التهلكة فسامحنا. ومنهم من قال: إن غزة كان بها حراك ونمو، نواد وجامعات. ومطار. وأنه كان هناك بقاء. نعم. إسرائيل تقتل وتقتل ولكنها لم تكن تبيد، وأنه بالنفس الطويل المقاومة كانت في البقاء. هل هم على حق؟ من هو على حق؟ هل غررنا بمقاومة غزة حين صفقنا لها وانتشينا لصلابة رجالها وصبر نسائها؟ هل أوهمناهم أننا “على القدس رايحين- شهداء بالملايين” إن فقط زال الحاجز. فكانوا وكنا نظن أن الحاجز أنظمة حكم فاسدة وحكام خائنون، وكان الحاجز هو مرآتنا؟
هذه ليست دعوة لجلد النفس أو اليأس أو الاستسلام. بل لتقييم أخطاء الماضي علينا نوقف دماء المستقبل ونجعله أفضل لنا ولأطفالنا. هل بعدما عرفنا كل ذلك كانت الثورة خاطئة، والمقاومة المسلحة خاطئة؟ والطريق هو الإصلاح المحدود ضمن المنظومة الدولية، بما تتيحه من مساحات ضيّقة، بدل الاستمرار في وهم المواجهة التي لا نحتمل كلفتها.
أم أن التاريخ لم ينته بعد، والمواجهة قادمة قادمة. لم تنته الجولة مع إيران، ومصر وتركيا من بعد شاؤوا أم أبوا. وأن هذا ما تعرفه مؤسساتنا العسكرية وهذا هو صبرها الاستراتيجي حتى تكون جاهزة، وإن كان كذلك، فهل نحن أقرب من دولنا ممن ظننا، وأن نقاط الالتقاء ممكنة؟
الأسئلة كثيرة. ويجب أن تطرح بعيدا عن الشعارات، أو الأدبيات.


