مدونات
للكاتبة: فاطمة الزهراء حبيدة
منذ أن كنا صغارا في المستوى الابتدائي، كان من البديهي أن تتمحور دروس اللغة العربية على الضوابط اللغوية والنحوية، بهدف أن تكون لغتنا سليمة بدون أخطاء، مرت السنين، لكن لا زلنا نجهل، أو بعبارة أخرى نتجاهل الوظائف الأساسية لبعض القواعد اللغوية، التي تناسينها مع مرور الزمن، إلى أن اختلطت علينا القواعد استحضرنا بعضها، وغاب البعض الآخر، لم ندرك أن القواعد التي درسناها ليست بتلك النظرة السطحية، بل قد تحمل في عمقها دلالات غير تلك التي اعتدنا عليها، وأن لها أدوار أخرى أكثر شمولا من ذلك المنظور الضيق، أو حتى ربما تكون إسقاطا لتجاربنا الشخصية، تعيدنا “اللام شمسية” إلى وظيفة “الفاصلة المنقوطة” إذ أصبحت هذه الأخيرة تشير للتماسك النفسي، واتخذت منها منظمة تُعنى بالوقاية من الانتحار شعارا لها، كدلالة على ضرورة الاستمرار في الحياة، وأنه لا بأس أن نأخذ وقفة، ثم نستمر…، لكن ما دلالة “اللام شمسية” في هذه الحالة، وأي دروس يمكن أن نستخلصها من هذا الحرف الخفي؟
قبل الخوض في التفاصيل، لابد من التذكير أن هدف هذا المقال ليس تناول القواعد اللغوية، أو ما شابه ذلك، بل الأمر يتعداه لكشف معاني غير اعتيادية، أو أن نرى الأمور بعُمقها لا بظاهرها، وأن نترصد لما تخفيه الأشياء وتضمره، ولعل أهم تعبير عن ذلك “لام شمسية”، المسلسل المصري الذي ترسخ في أذهان الشعب المصري والعربي عامة، وما يحمله من أهداف كشفت في ثنياه قوة الحدس، وأن “قلبك يعرف، وحدسك يعرف”، يستهل المسلسل بالقولة الآتية للطفل يوسف (بطل المسلسل): “لام شمسية ولام قمرية…واحدة نقولها وواحدة خفية”؛ “القمرية زي ما هي…زي الباب والعين والقلب”؛ “والشمسية متخبية زي السر وزي الذنب…، والقمرية لام منطوقة موجودة في كل الأحوال…والشمسية لام مسروقة…مش كل المكتوب يتقال” هذه العبارة رغم بساطتها إلا أنها تحمل في طياتها الكثير من المعاني، إذ تدور اطوار المسلسل حول حدث مركزي، تقف فيه زوجة الأب وحيدة دفاعا عن ابن زوجها ومُرشدها هو احساسها الداخلي، تصارع ضد الجميع من أجل إثبات صحة ادعائها، لكن لا تملك أي دليل سوى حدسها، متأكدة أن حدسها لم يخطئ، لكن أين الدليل؟ من هنا جاء عنوان المسلسل “لام شمسية”، كاستعارة لوجود حقيقة ما مخفية، دون وجود دليل ظاهر على الواقعة.
لكن الأهم هو ذلك التحامل على تكذيب الحدس وصحته، وما يسعى له المحيط المجتمعي لكتم هذا الصوت الداخلي، الذي يخبر المرء بأن شيئا ما غير سليم ومخالف للعادة، تلك الاحاسيس التي تخبرك أن شيئا ما يحدث: مربك، غير مريح، والتي تبدوا للآخرين مجرد ادعاءات.
فــــــــ”لام شمسية” هي الأشياء التي يرفض الناس الايمان بها، إلا بوجود دليل مادي وقاطع، فكيف نثبت الحدس؟ ذلك الحديث الداخلي الذي يقودنا للحقيقة دون أدوات ملموسة، كيف نثبت للناس أحاسيس مشاعرية بمنطق العقل أي بالحجة والدليل.
يعيدنا هذا المسلسل، لطرح إشكال صراع العقل والحدس، وأيهما نرجح، هذا السؤال كان محل نقاش عميق ذو بعد نفسي وفلسفي، وهو ما يستدعي منا التحليل والبحث بشكل مفصل.
العقل أو الحدس: أيهما أصح؟
لا طالما كان الصراع بين العقل والحدس تاريخيا، وظهرت عدة توجهات فلسفية ترجح كفة الحدس على العقل، فإن كان العقل ينبني على المنطق، والوعي والعلاقة بين السبب ونتيجة، فإن الحدس يتأسس على مدى اتصال المرء بروحه وذاته، فهو بعيد جدا عن المنطق، ولا يحتاج لإثبات، ولا لاستخدم تقنيات التفكير الواعي، التي عادة ما نلجأ لها عند حل معادلة أو لغز، أو فهم ظاهرة طبيعية ما، ذلك لأن الجانب المتحكم بالدرجة الأولى في الحدس هو اللاوعي، وإن كان صوته هامسا إلا أنه ملح جدا، ويؤثر كثيرا في اختيارات المرء سواء العادية أو حتى المصيرية، ومن هنا يتساءل البعض هل يمكن أن يرهن المرء قراراته المصيرية للحدس؟ وماذا لو كان هذا الحدس كاذبا؟ أو مجرد اندفاع مشاعري؟ فربما حياة يقودها الحدس لوحده ستكون مليئة بالعشوائية والمشاعر الاندفاعية، أو العقل لوحده ستكون جافة خالية من التواصل والالفة مع الذات، إذن ما العمل؟ أيهما نرجح؟
للإجابة على السؤال السابق، تقترح “مادلين لانجل” نهجا فكريا يأخذ بضرورة المزواجة بين العقل والحدس معبرة عن ذلك: “حدسك وعقلك يجب أن يتعاونا…ويمارسا الحب”، كإشارة لأهمية المزج بين الحدس والعقل للحصول على حياة متوازنة، لكن لكل أصل استثناء، فبعض الحالات الشهيرة، كان مرشدها الحدس فقط، ولا شيء آخر، فهذه المفارقة بين العقل والحدس، لا يمكن أن تمر دون إثارة تساؤلات الفلاسفة والعلماء في مجال الرياضيات، فمنهم من حاول اخضاع الحدس للتجربة، ومنهم من آمن بالعقل فقط كآلية للتفكير والتحليل بمعزل عن الحدس، واعتبار هذا الأخير مجرد عواطف لحظية لا يمكن أن يُبنى عليها العلم، ولهذا الغرض تم انتقاء عدة تجارب اختبرت الحدس:
-امرأة تدعى “شاكونتالاShakuntala ” اقتصر تعليمها لحد الثانوية فقط، وطريقتها في الحدس، أن تطلب منك طرح سؤال رياضي، وقبل أن تُنهي طرح سؤالك، تكون شاكونتالا باشرت كتابة الجواب.
من حظ شاكونتالا أنها التقت بأنشتاين، والذي حاول أن يختبر مدى صدق وقوة تنبؤها، فبعد أن طرح عليها سؤالا رياضيا يتطلب من 3 إلى 6 ساعات من التفكير والتحليل من أجل بلوغ الحل، كانت المفاجأة أن شاكونتالا باشرت بكتابة الجواب، حتى قبل أن يطرح انشتاين سؤاله، وكان حينها مندهشا وعند سؤالها عن كيفية فعل ذلك، كانت إجابتها: لا أدري، شيء ما يحدث، تظهر الأرقام أمام عيني في مكان ما داخلي. (للاستزادة أوشوا، الحدس أبعد من أي حدس، ص 42).
تجربة شاكونتالا كانت جد فريدة ومميزة وتغري دارسي الحدس، والمهتمين بالذكاء الحدسي، الذي لا يرتبط بالتعليم أو التجربة، وفي هذا الصدد كُثر هم علماء الرياضيات الذين آمنوا بأهمية الحدس، واهمهم انشتاين قائلا: “العقل الحدسي هبة مقدسة، والعقل العقلاني خادم أمين”، مؤكدا أن الحدس يلهم لصنع الأفكار الجديدة، بينما يضفي المنطق والرياضيات طابعا رسميا عليها ويثبتان صحتهما”(1)
وفي سبيل إثبات صدق الحدس، أجرى “بيريسون اتبث” اختبارا حول اختيارات الافراد الحدسية، وتوصل إلى أنها تكون أكثر دقة من تلك التي تعتمد المنطق فحسب، إذ أجرى 4 تجارب، ووجد بيرسون أن الأشخاص الخاضعين للاختبار، بأنهم كانوا قادرين على اتخاذ قرارات أسرع وأكثر دقة عند مشاهدة الصور العاطفية دون وعي أي باعتماد الحدس فقط، وكانت ادمغتهم قادرة على معالجة المعلومات وتحسين قراراتهم”(2)
أما عن راداكريشنان فيدعي أن المعيار الحقيقي للمعرفة هو اليقين، لأنه سمة من سمات التفكير الحدسي، ويؤكد أن الحدس لا يعارض العقل بل يتجاوزه، ويعتبر أن التفكير الحدسي وثيق بالعلم، مستشهدا بعدة اختراعات علمية، كان الحدس هو المُلهم الأول لها.
ختاما، يُعتبر الحدس مرشدا جيدا لاختصار الطرق، دون الغاء العقل، والآليات الأخرى المساعدة على اكتشاف الحقائق، فيكون الحدس بمثابة صوت داخلي مُوجه لقرارات واختيارات الفرد. فطالما صادفنا أشخاص أو مواقف أو أشياء اخترناها بشكل تلقائي، وانجذبنا لها دون أن ندري هل تحمل في طياتها الخير أم الشر، حتى نكتشف أن حدسنا، هذا الصوت الداخلي البسيط يحمل في عمقه الصحة والصدق، وأن تلك الاختيارات النابعة من الحدس دائما ما تكون صادقة، ولو تحامل عليها البعض، والتي تظهر نتائجها الحميدة ولو بعد حين.
ربما لو سمحنا “لــــــلام الشمسية” أن تبرز وتشرقنا داخلنا، أن تكون بديلا عن تلك الاختيارات المحسوبة والضيقة، وتلك الخطط التي نضعها بالنقطة والفاصلة كما يقال، ونطلق العنان لأن تنقذنا تلك العشوائية والسير في المجهول بقيادة الحدس، ونكف عن “إدغام” تلك الأصوات الداخلية التي توصلنا للحقيقة.
[1] Sintelly, intuitive, 5 reasons why intuition is the highest form of intelligence(1)
(2) Intuition, it’s more than a feeling, association psychological science, April 21, 2016

