أدب

البحث عن الذات.. بحث عن الكتب!

البحث عن الذات.. بحث عن الكتب!

أمسكت القلم وفكرت وأنا أحضِّر لمقالي الأسبوعي عن الشيء الذي يشغل بالي كثيرًا. ضع مشكلات الحياة اليومية ودفع الفواتير والذهاب إلى السوق ومنغصات السياسة العالمية. داخلي جوع لا يشبع، أو لِنَقُلْ نَهَم لقراءة كل هذه النصوص داخل الكتب، خصوصًا التي في مكتبتي.


بدأتُ الأسبوع بقراءة مذكرات الإعلامي فهمي عمر. الرجل عَمِلَ في الإذاعة المصرية. وأخذتُ أسجِّل الملاحظات والأفكار على هامش الكتاب وفي الصفحة الأولى منه. ثمة مواقف تستحق أن أرويها للقارئ في مقال قادم عن المذيع فهمي عمر، ثمة لحظة من أهم لحظاته المهنية، وهي لحظة البيان الأول لثورة يوليو في الإذاعة يوم 23 يوليو 1952، حيث كان المذيع فهمي في الإذاعة لحظة وصول الضابط محمد أنور السادات لقراءة بيان الثورة، وانقطع البث لمدة ساعة تقريبًا من محطة في أبو زعبل، وقلق السادات، ثم عاد البث مع وصول وحدة عسكرية إلى هناك. رفضَتْ قيادة الثورة في البداية قراءة أي مذيع لبيان الثورة حتى لا تُورِّط المذيعين في هذه الثورة الوليدة، وقرأ أنور السادات البيان، وعاد بعض رفاقه من الجنود إلى قراءة البيان لاحقًا. ويشهد فهمي عمر أن قراءة السادات كانت صحيحة لُغويًّا، وقد سجَّلَت الإذاعة لاحقًا صوت السادات وهو يقرأ البيان حتى يكون محفوظًا لديها. وكان معظم مَن قرأ البيان مِن الضباط لا يعرفون “اسم إنَّ” مِن “خبر كان”، ولذلك أُذيع البيان يوم الأربعاء 23 يوليو/تموز 1952 في المساء بأصوات مذيعي الإذاعة.


قدَّم فهمي عمر أُمَّ كلثوم على المسرح، وتلعثم وهو يقول: “والآن تُرفع السادةُ أيُّها الستارة!”، بدلًا من القول: “والآن تُرفع الستارةُ أيُّها السادة”. ومزح معه الزملاء وقالوا له: “بتحصل في أحسن العائلات”. وكانت أم كلثوم تعرف أنه صعيدي، فأخذت تمازحه وتقول له: “وعندما يحييك أحدهم يقول لك: صعيدة!”، تقصد “سعيدة”، وهي كلمة كان تُستخدم للتحية بين المصريين، تسمعها في الأفلام القديمة الأبيض والأسود.


وضعتُ الكتاب على طاولة المقهى حيث شربتُ قهوةً على سبيل التغيير، ودفعتُ ثمنَها أَرَقًا في المساء، وبجانب قهوتي مذكرات الفنان محمد عبلة، التي أقرأ فيها بعنوان “مصر يا عبلة”، وهو يحكي في الفصول الأولى معاناته للالتحاق بكلية الفنون وذهابه إلى كامل بيه عميد كلية الفنون، ويصف لنا في المذكرات دخول العميد إلى الكلية في الصباح، ويرى السيدة “دادا سكينة” ويقول لها بعاطفة واضحة: “ما لك يا سكينة؟ تشبهين نساء بيكاسو في المرحلة الزرقاء”.

قالت سكينة: “والله يا أستاذ ضرسي يؤلمني”.


سُمِّيَتْ هذه المرحلةُ بالزرقاءِ لأنها الفترة التي كانت جميع لوحات بيكاسو يطغى عليها اللون الأزرق، وكانت تمثل أشد مراحل حياته بؤسًا وصعوبة وألمًا. وترى في المذكرات فرح هذا العميد بلوحات ماتيس. قال العميد للطالب محمد عبلة: “اجلس، اجلس، سوف أُطلِعك على صور لأجمل أعماله”. ثم أشار إليه ليجلس بجانبه، وبفرحة طفولية قال: “لقد جمعتُ أجمل أعمال ماتيس ورسومه… انظر، انظر. هذا الرسم الرائع، وهذا العنف في اللمسات، وتلك البساطة. بعيد كل البعد عن أعمال أستاذه. قوة اللون وقوة التكوين. انظر إلى هذا اللون الأحمر، لو أخفيناه فسوف يتغير العمل بأكمله. ورغم أن مساحة الأحمر ليست كبيرة، لكنها مهمة جدًّا، والخطوط السوداء التي يؤطر بها أشكاله مستوحاة من الزجاج المعشَّق والرسوم الشعبية”. كان العميد الفنان يتحدث بحماسة وطفولية وهو سعيد عن فنان يحبه.


ثم حكتني يدي في الليل وشعرت بملل من مكتبتي فقلت لأسرتي: هيا لشراء الكتب. وذهبت إلى مكتبة “جرير” اشتريت لابنتي كتاب “العادات السبع للأطفال الأكثر فاعلية” لشين كوفي، وهو ابن ستيفن كوفي، رغم تحفظي على كتب التنمية البشرية، لكن كتاب شين كوفي أملك معه ذكريات سعيدة، فالنسخة الخاصة بـ”العادات السبع للمراهقين الأكثر فاعلية” كانت من الكتب المحفزة لي في سنوات الثانوية العامة، ووزَّعتُه على كثير من الأصدقاء، وطبعت العادات السبع أمام مكتبي وأنا صغير.

عُدْتُ إلى البيت ومعي عديد من الكتب. “مدخل إلى الأدب” من إصدارات “جرير”، وهو كتاب فخم وملوَّن من سلسلة “دي كي”، وعنوانها الفرعي “سلسلة أفكار كبيرة بشرح مبسط”‎. اشتريت الكتاب الذي عن الأدب، ولديهم كثير من العناوين عن الجريمة، وشارلوك هولمز، وشكسبير، وعلم الاجتماع، والتاريخ، وعلم النفس. ثم أخذت من قسم السير الذاتية مذكرات لاعب التنس أندريه أغاسي بعنوان “بطولة”، خصوصًا بعد قراءة مقال طاهر الزهراني عنها، وإعجابي بهذه الطرفة التي يحكيها طاهر في مقالته، إذ يذكر في مدونته الجميلة: “قبل سنوات أخبرني زميل في العمل أنه يلعب التنس الأرضي في ملعب الخطوط السعودية، وفورًا قلت له: أتعرف لاعبًا اسمه أندريه أغاسي؟ لاعب أمريكي مشهور كان يلعب في بداية التسعينيات. قال: يا حبيبي، أنا وُلدت في منتصف التسعينيات!”.


بعد مذكرات أهل السياسة وجماعة الأدب وشِلَل الفن والممثلين، أتلصَّص على مذكرات الرياضيين. وأخذتُ أُقلِّب في مذكرات أغاسي في صالون البيت وأقرأ الوصف البديع للاعب التنس لمباراته الأخيرة وكيف يسحب نفسه من السرير لينهض، وثقل مشاعره في مباراة الاعتزال، مع وصفه الدقيق لألم انزلاق الفقرات، فشعرتُ بوخزات الألم في ظهري واللاعب يسرد وجع حقنة الكوريتزون، وكيف يكره التنس. افتتاحية السيرة مكتوبة بأسلوب روائي مشوق. فرحت بها وأخذتُ أكتب ملاحظات على الصفحة الأولى من الكتاب. وارتضيت الصفقة، فقد اشتريت الكتاب بثمن مرتفع، لكن المقدمة تشي بسيرة ثرية ومشوقة عن عالم لا أعلم عنه شيئًا، وهو التنس وقصص الرياضة. هذه هي فائدة الكتاب، أن يقفز بك في عوالم لا تدري عنها ولم تَعِشها.


هل اكتفيت؟ مررت بعد أيام على مبنى وزارة الثقافة في الدوحة، وسألت عن منفذ بيع الكتب، ووصلت إلى الدور الأول، وطلبت منهم سيرة الروائي سومرست موم بعنوان “عصارة الأيام”، ترجمة حسام الخطيب. ولي مع هذه السيرة ذكريات جميلة، لكنها ضاعت مني بسبب الأسفار. وقلبت عيني في المكان فرأيت مجلدات فاروق شوشة “لغتنا الجميلة” وهي مختارات شعرية، وطلبت منهم الكتاب، وهو عدة مجلدات، فوافقوا على حصولي على المجلد الأول. وخطر ببالي وأنا أحمل كتاب فاروق شوشة صوت زميلته في الإذاعة وهي تصدح ببيت حافظ إبراهيم في افتتاحية برنامجه:

أنا البحرُ في أَحشائِهِ الدُّرُّ كامِنٌ                  فهل سَاءَلُوا الغَوَّاصَ عن صَدَفاتي؟

يقول عارف حجاوي في كتابه “إحياء الشعر” تعليقًا على هذا البيت: “إن كنت سمعت البرنامج الإذاعي “لغتنا الجميلة” لفاروق شوشة، وفي مقدمة كل حلقة هذا البيت مقروءًا بـ”ساءَلوا” بدل “سأَلوا”، فهذا جائز في العروض أيضًا، ونظن أن حافظًا كان سيأخذ بهذه القراءة لو سمعها، ففيها مَدٌّ كان سيُعجِب حافظًا الخطيب المنشد. لكن “سأَلوا” أحسن للمعنى، فالعرب أهملوا لغتهم ولم يكلفوا أنفسهم عناء سؤال الغواص عن دُرَرها ولو مرة واحدة، لا مساءلته مرة بعد مرة”.


في صحبة الشاعر محمود درويش

وفي إحدى الليالي كنت أُقلِّب في تطبيق “أبجد” بحثًا عن عنوان كتاب جديد صدر حديثًا ولم أرَه في معارض الكتب، لأقلِّب في الكتاب دفعًا للأرق. وكان الكتاب الذي وقع عليه اختياري “كأن تكون فلسطينيًّا.. شذرات من سيرة ذاتية” لفيصل درّاج. ويحتوي الكتاب على ثمانية فصول، وهو مكتوب بطريقة الملفات الشخصية والذكريات عن المثقفين الذين تعرَّف إليهم فيصل في مسيرته الحياتية، مثل: سعد الله ونوس، وأنيس صايغ، وعبد الرحمن منيف، وجمال الغيطاني، وغيرهم.

أخذت أقلِّب في الكتاب بحثًا عن قصة جميلة قبل النوم. ما أمتع الاقتباس المميز الذي يأتي قبل النعاس مباشرة، أو الحكاية الحلوة بلا ترتيب، منها ما ذكره فيصل دراج في مذكراته عن الشاعر محمود درويش، أنه في فترة متأخرة من حياته أخذ درويشَ غضبٌ شديد، فطلب سيجارة، وهو الذي أقلع عن التدخين، وقال محمود درويش: “ما يؤرقني أنني لم أُحسِن التصرف في وقتي، أهدرتُ جزءًا كبيرًا بلا معنى، كان من الواجب تكريسه للشعر”. وأكمل: “لا معنى للشهرة والمجد والخلود، فالصواب الوحيد أن أشعر أنني اقتربت مما حلمت به. وهذا لم يحصل”.

سأل درويش فيصل درّاج بعد حين، وكان رائق المزاج: “ما أجمل نثر قرأته؟”، أجاب دراج: “مدرسيًّا، نثر طه حسين”، فعلّق درويش: “إنَّ كتاباته مزيج من النثر الحديث والبلاغة الأزهرية” فتابع درّاج: “مدرسيًّا أيضًا، أبو حيان التوحيدي”، فعلّق من جديد: “يحتاج إلى قاموس”، فذهب درّاج إلى جهة أخرى وقال: “جان جونيه في كتابه {الأسير العاشق}”. ابتسم درويش أخيرًا وقال: “أرجو حين تقرأ ديواني الجديد {في حضرة الغياب} أن تُعيد النظر”، وكان درويش مرتاحًا إلى تخوم السعادة.


وفي معرض الحديث عن نزاهة محمود درويش يذكر درّاج تقييمًا شعريًّا له شكل الحكاية، حين سأله فيصل درّاج: “كيف ترى الشاعر المصري أحمد شوقي (أمير الشعراء)؟”، أجاب درويش بشيء من اللا مبالاة: “تقليديٌّ، لم يأتِ بجديدٍ حقيقيٍّ”. بعد عامين، وبلا مقدِّمات، قال درويش وكأنه يستأنف حديثًا من أمس: “أحمد شوقي شاعر عظيم الموهبة، ربما أربكَت شهرتُه شَكْلَ النظر إليه، فبدا عظيمًا لمن يعرفه وعظيمًا لمن لا يعرفه”. وتوقف قليلًا وأضاف: “كان جوابي الأول متسرعًا”، وتلفظ درويش ذات مرة بجملة أخذها منه غيره: “نحن الشعراء قوم من الأطفال”.

وموقف درويش من إسرائيل واضح، إذ كانت بصيرة الشاعر فيه أكثر نفاذًا من تحليلات القيادة السياسية، كأن يقول قبل حصار بيروت عام 1982: “لو سلخنا جلودنا وقدمناها للإسرائيليين، لما اعترفوا بنا أو قدموا شيئًا مفيدًا، فأنا عشت بينهم وأعرف تفكيرهم، بلا أوهام”.


إحسان عباس بعين فيصل دراج

في شباب فيصل دراج ذهب إلى الكاتب الكبير إحسان عباس ليُهديه كتابه الجديد. يذكر دراج قصة اللقاء، فقد قال إحسان بعد ترحيب: “هذا كتاب صغير الحجم جليل الفائدة”. ابتسم إحسان بعد قراءة الإهداء وأضاف: “هل تسمح لي أن أصحّح خطأ نحويًّا وقع سهوًا في إهدائك الكريم؟”.

نظر دراج إليه بخجل، كما لو أن كتابه تضاءلت صفحاته من جديد، وأشفق إحسان على تلعثم ضيفه وسارع إلى القول: “نحن على أي حال متساويان، فلسطينيان في لبنان، أحدهما من قرية في قضاء شهير، وأنا وُلدت في قرية عين غزال، نحمل لقبًا أكاديميًّا، وأدركتنا معًا حرفة الكتابة”.‏  ‏توقف إحسان وابتسم وتابع: “لكنَّ بيننا فرقًا واحدًا: أستطيع أن أصوّب خطأً نحويًّا بسبب صحبة مع اللغة العربية طويلة، تختلف عن صحبة هيغل وديكارت وماركس، الذين آثرتَ صحبتهم على صحبة سيبويه والهمذاني والجاحظ”. هكذا ختم إحسان القول بابتسامة استحالت قهقهة.‏


الهروب إلى الكتب

هذه إطلالة على عناوين منوَّعة لكتب رافقتها الأسبوع الماضي، أنظر فيها، وأقفز من كتاب إلى آخر، من مذكرات مذيع إلى سيرة لاعب تنس، إلى حكايات ناقد أدبي وشذرات من سيرته الذاتية. بحث بلا كلل حول مضامين الكتب، وامتصاص رحيق تجارب الناس باختلاف مذاهبهم وأشكالهم وأعمالهم، وفضول كبير لأن الواقع في كثير من الأحيان حزين وقاصر ومتعب، لذلك نهرب من ألم الوجود البشري إلى مواساة مع صفحات الكتب. القراءة هي لحظة صمت من ثرثرة العالم، ونظرة حميمية لصفحات الكتاب، وإطلاق طاقات الخيال للارتفاع قليلًا عن أرضنا وواقعنا المترع بالمظالم والأحزان والنقص.


ففي الصيف أسمع عن رحلات الناس في الغربة للعودة إلى بلادهم، يأتني شعور الحنين إلى الوطن، ثم أتذكر أنْ ليس لي ميناء للعودة، أنت سائح أبدي في دنيا الله، أنت مطرود من جنة الأقارب، حَرامٌ على بلابله الدوحُ حلالٌ للطيرِ من كلِّ جِنسِ كما يقول شوقي، ومحروم من حضور جنازات الراحلين، فقد غادر عالمنا منذ أيام ابن عمّ والدي عبد الرحمن الهجين رحمه الله، آخر أصدقاء والدي ورفيق عمره، وحُرِمتُ تشييع الجنازة، هكذا أنا طائر بلا عش، هذا مذهب في السلوّ بالقراءة وتصفُّح الكتب وكتم الأحزان في القلب والمواساة بالنسيان.

شارك

مقالات ذات صلة