سياسة
افتخرت الولايات المتحدة مؤخّرًا بدورها في توقيع اتفاق سلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، معلنةً أن سنوات الصراع الدموي في شرق الكونغو قد تقترب من نهايتها. غير أن هذا الاتفاق الأمريكي الرعاية لم يُنظر إليه بإجماع كإنجاز دبلوماسي بريء؛ فقد جاء مُثقَلًا بشروطٍ تفضح مقايضةً صارخة بين السِّلْم والموارد. إذ لم يتورّع ترامب عن التصريح علنًا، وبلهجة المنتصر، بأن بلاده حصلت على «الكثير من حقوق المعادن من الكونغو» مقابل إحلال السلام. ولعل هذه الكلمات وحدها كفيلة بكشف النقاب عن الوجه الحقيقي للاتفاق: سلامٌ على الورق وثرواتٌ على الأرض تسيل لعاب القوى الكبرى.
صفقة سلام أم استغلال مقنّع؟
كيف يمكن الحديث عن سلامٍ حقيقي في دولةٍ تعجّ بأكثر من مئة ميليشيا مسلحة تقاتل بالوكالة عن أجندات إقليمية ودولية؟ لقد أرغم الوسيط الأمريكي المفاوضين الكونغوليين على إسقاط مطلبهم الأساسي بانسحاب فوري لجميع القوات والمليشيات الأجنبية من شرق الكونغو. هكذا يُطلب من الكونغو القبول بسلامٍ زائف على أراضيها فيما يبقى نصف المشكلة دون حل. لا يمكن أن يُبنى السلام على أساس بقاء ميليشيات أجنبية تجوب الأرض بلا رادع؛ فهذا التنازل المفروض ينسف جوهر السيادة، ويجعل الاتفاق أشبه بوقف إطلاق نار هش يُخفي تحت سطحه بذور صراع مستقبلي. وفي المقابل، شكّل حضور وزير الخارجية الرواندي للتوقيع – رغم غياب ممثلي M23 – إقرارًا ضمنيًا بتورط بلاده في دعم التمرد دون حساب.
النتيجة أن المعتدي نال مكافأة: فرواندا حصدت الشرعية الدبلوماسية مقابل وعود مبهمة بسحب قواتها لاحقًا، فيما قُدّم للكونغو سلام منقوص. أما حكومة الكونغو، فقبولها بهذا الاتفاق وهي تدرك أنه يكرّس التدخلات الأجنبية يثير التساؤل عن تواطئها على حساب سيادة شعبها. يُطلب من الضحية تقديم التنازلات، بينما يخرج الجاني بغنائمه سالمًا.
الموارد النادرة ثمن “السلام”
لم يكن خافيًا أن ثروة الكونغو المعدنية الهائلة هي القلب النابض خلف هذه الصفقة. فشرق الكونغو يُعَدّ كنزًا جيولوجيًا يضم معادن نادرة واستراتيجية – من الكوبالت والتنتالوم (الكولتان) إلى الذهب والنحاس والليثيوم. هذه الموارد شريان للصناعات العالمية الحديثة من بطاريات السيارات الكهربائية إلى الهواتف الذكية، وتُقدّر قيمتها بنحو 24 تريليون دولار من المعادن غير المستغلة. لذا، تضمّن الاتفاق إنشاء إطار اقتصادي إقليمي خلال 90 يومًا يهدف إلى دمج سلاسل توريد المعادن بين الكونغو ورواندا بالشراكة مع الولايات المتحدة وشركاتها. أي وقف العنف مقابل فتح خزائن الكونغو المعدنية للاستثمار الغربي. وقد أكد ترامب بنفسه هذا المنطق حين تباهى بأن الولايات المتحدة ستنال نصيبًا وافرًا من حقوق معادن الكونغو بموجب الاتفاق. وتشير التقارير إلى أن الشركات الأمريكية تطمح للوصول إلى معادن الكونغو الحيوية التي “تحتاجها بشدة لتلبية الطلب الصناعي والتفوّق على الصين في سباق تأمين موارد أفريقيا الطبيعية”. بمعنى أن الولايات المتحدة ترى في الكونغو فرصة ذهبية لتأمين إمدادات الكوبالت ومعادن البطاريات الحيوية، لضمان التفوق في صناعات التكنولوجيا النظيفة والسيارات الكهربائية التي أظهرت تفوقًا منقطع النظير في صناعتها. وهكذا تحوّل شرق الكونغو إلى رقعة شطرنج جيواقتصادية يُقايض فيها الأمن بالثروة، وتُستغل معاناة الشعب كعملة تفاوضية لانتزاع امتيازات للشركات الأجنبية.
ازدواجية المعايير: الفخ الصيني والشراكة الأمريكية
على مدار السنوات الماضية، لم تتوانَ الدول الغربية عن انتقاد تنامي نفوذ الصين في أفريقيا، ووصفت صفقات بكين بأنها “فخاخ ديون” و”استعمار من نمطٍ جديد” يهدف للهيمنة على الموارد. لكن المفارقة اليوم هي أن الغرب يصفّق حين يفعل الأمر نفسه أو أسوأ. فإدارة ترامب – بدعم مؤسسات الهيمنة الغربية – نسجت اتفاقًا يُقايض الموارد بالسلام والحماية، دون أن نسمع الضجيج الأخلاقي الذي رافق اتهام الصين.
لقد أثبتت التجربة أن كلًا من الصين والولايات المتحدة مستعد لاستغلال هشاشة الدول الأفريقية لمصالحه الخاصة. وإن كانت بكين تُغري البلدان بقروض ومشاريع مقابل عقود المعادن، فإن واشنطن في حالة الكونغو عرضت الصفقة بشكل مباشر: السلام مقابل المعادن. ومع ذلك، يغيب وصف “الفخ الأمريكي” عن الخطاب السائد رغم أن الجوهر واحد – نهب موارد أفريقيا كغنيمة في صراع القوى الكبرى.
الحق يُقال، تاريخ القوى الغربية في الكونغو وفي إفريقيا عمومًا لا يُقارن من حيث البشاعة والاستغلال بتاريخ الصين، إذ يتجاوزها بأشواط على مستوى العنف البنيوي ونهب الموارد واستدامة الفوضى. من فظائع حقبة الملك البلجيكي ليوبولد الثاني – الذي حول الكونغو إلى مزرعة مطاط دموية – إلى دعم دكتاتورياتٍ وحروبٍ أهلية إبّان الحرب الباردة لضمان تدفق المعادن نحو مصانعه. اليوم تعود عقلية الوصاية والاستغلال برداءٍ جديد؛ يُدينون الصين علنًا بينما يعقدون في الخفاء صفقات مماثلة. فلا عجب أن وصف محلل كونغولي هذه الصفقة بأنها “مؤتمر برلين 2.0” لتقسيم أفريقيا من جديد تحت شعار السلام.
الأبعاد الإقليمية والمحلية
يشير مراقبون إلى أن الاتفاق كرّس نفوذ رواندا في شرق الكونغو دون محاسبة. فهناك آلاف الجنود الروانديين يقاتلون على الأرض دعمًا لمتمردي حركة “إم 23″، وقد سيطرت الحركة على مدن رئيسية ومناطق تعدين غنيّة خلال هجوم هذا العام. مع ذلك، يمنح الاتفاق كيغالي 90 يومًا للانسحاب، ويلزم كينشاسا أولًا بتحييد ميليشيا الهوتو المعادية لرواندا – أي أن الأولوية لمطالب رواندا الأمنية. هذا التجاهل لقضية “إم 23″، ذاتها يثير الشكوك حول قدرة الاتفاق على الصمود، إذ لا يمكن إنهاء النزاع بينما تبقى أخطر المليشيات خارج الحل. وداخليًا، استقبل الكونغوليون الاتفاق بحذر شديد. صحيحٌ أن وقف إطلاق النار عاجلٌ بعد أن أودت جولة العنف الأخيرة بحياة الآلاف وهجّرت مئات الآلاف، لكن كثيرين يشعرون أن السلام المعروض جاء على حساب العدالة والمحاسبة للمواطنين العاديين.
فالقوات الأجنبية ما زالت على الأرض، والتمرد المدعوم خارجيًا لم يُهزم بل مُنح شرعية ضمنية، وثروات البلاد باتت مباحة. لذا وصف الخبير الكونغولي، الدكتور دينيس موكويجي الاتفاق بأنه “استسلام فاضح للسيادة” يكافئ العدوان ويشرعن نهب موارد الكونغو. والحقيقة الأخرى المُرّة أن حكومة كينشاسا ظهرت مرتهنة للإملاءات الخارجية، تساوم بمقدرات وطنها مقابل ضمانات لبقائها في السلطة. وتزعم واشنطن أن الاستثمارات الغربية ستجلب التنمية والاستقرار، لكن كل عينٍ فاحصة، تدرك أن التركيز على استخراج المعادن تحت راية السلام قد يعيد إشعال الصراع بدل إخماده. فما دامت شبكات التهريب وتمويل المليشيات نشطة، سيبقى شرق الكونغو برميل بارود قابلًا للانفجار في أي لحظة. إن إحلال السلام الحقيقي يتطلّب بناء دولة قادرة على بسط سيادتها على كامل أراضيها، وجيش موحّد يدمج المقاتلين السابقين بدل تركهم أدوات بيد الخارج. أما الحلول السطحية التي تتجاهل جذور النزاع فلن تجلب إلا هدوءً مؤقتًا مخادعًا.
لا سلام بلا محاسبة
في الختام، تكشف صفقة رواندا والكونغو عن معادلة مألوفة: تُقدم مصالح الشركات الكبرى على حساب حقوق الشعوب. باختصار الاتفاق يوقف النزيف بينما ينتزع قلب الكونغو باستغلال حاجة البلاد للسلام لاقتطاع أثمن ما تملك. أظهرت هذه الصفقة مرةً أخرى نفاقًا صارخًا في السياسة الدولية تجاه أفريقيا؛ فالمبادئ تُرفع شعاراتٍ عندما تلائم المصالح، وتُطوى عند اقتسام الغنائم. وما دام منطق الربح يعلو على حقوق الإنسان، سيظل شعب الكونغو يدفع الثمن. إن السلام المستدام لن يتحقق بمقايضة السيادة بالثروة، بل بتمكين الكونغوليين من تقرير مصيرهم بأنفسهم. وأي “سلام” مفروض من الخارج لن يكون سوى هدنة زائفة أو تبديلًا لعَلم المستغل ليس إلا. ومن هذا المنظور، فإن ما يُقدَّم اليوم بوصفه “اتفاق سلام” ليس إلا محاولة لإضفاء الشرعية على منظومة استغلال قديمة، كانت تُدار سابقًا عبر واجهات غير رسمية وميليشيات بالوكالة. الاتفاق، في جوهره، لا يمثل تحوّلًا نحو التنمية، بل هو تحويل الاستغلال من صيغة غير قانونية إلى شراكة موقّعة، ومن النهب المسلح إلى استثمار معلن. الأسوأ أن هذه “الصفقة” الجديدة تجري هذه المرة بمباركة علنية من حكومة كينشاسا، التي يقودها الرئيس فيليكس تشيسيكيدي، في مشهد يعكس كيف يمكن للرعاة أن يصبحوا أدوات رسمية لإعادة تدوير الجريمة، لا احتوائها.
إذا كان التاريخ علّمنا شيئًا في منطقة البحيرات العظمى، فهو أن لا سلام بلا عدالة ولا تنمية بلا سيادة. سلام الكونغو الحقيقي لن يصنعه اتفاقٌ في واشنطن، بل يصنعه شعبها حين تتوقف أرضهم عن كونها ميدانًا للمساومات الأجنبية. إلى ذلك الحين، سيبقى هذا الاتفاق مجرد ورقة سلام على طاولة استعمارية تُخفي أطماعًا لا تشبع، بينما يتوق الشعب الكونغولي إلى اليوم الذي يصبح فيه سيد قراره على أرضه وموارده.