فكر

السوريون.. من كُتلة صامتة إلى رأي عام يُعيد التوازن العربي

يوليو 1, 2025

السوريون.. من كُتلة صامتة إلى رأي عام يُعيد التوازن العربي

– جميل العبد الله

 

 

لم يأتِ بروز السوريين في الرأي العام العربي كصوتٍ له وزن وتأثير من فراغ، بل كان نتيجة طبيعية لمسار طويل من الصراع والوعي وإعادة التشكل الوطني. هناك من يستغرب اليوم هذا الحضور القوي ويسأل باستنكار: متى صار للسوريين رأيٌ يسمع وكلمةٌ تفرض نفسها؟! أليسوا هم الذين كانوا لسنوات ضحايا ومهجرين وصامتين؟.

 

 

الحقيقة أن من يطرح هذا السؤال غالباً ما يجهل حجم التحولات التي مرّ بها السوريون، ويُسقط عليهم نظرة نمطية قديمة، فيتّهمهم بـ”التأييد الأعمى” لحكومتهم الجديدة أو يراهم “مصفقين” بلا رأي مستقل، والحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك.

 

 

14 سنة من التضحيات.. كي يعود الصوت

 

لعلّ أهم ما غاب عن هؤلاء أن هذا الصوت الذي خرج اليوم إلى العلن لم يتكوّن في فراغ منذ 2011، دفع السوري ثمن صموده من دماء أبنائه، ومن عمر جيلٍ كامل نشأ بين الموت والنزوح والحرمان. خلال هذه السنوات، لم يكن السوري يقاتل لإسقاط سلطة فحسب، بل ليفرض هويته وصوته وحقه في تحديد من يمثله، مهما كان الثمن.

 

 

ولهذا السبب، فإن المواطن السوري بعد كل هذا النزيف، لم يعد ذلك الكائن المستسلم للظروف. اليوم صار لديه وطن يدافع عنه، ليس شعاراً على جدار، بل حقيقة يعيشها ويحرسها، وهو ما لا يفهمه المؤدلجون الذين ما زالوا أسرى شعاراتٍ لم يدفعوا ثمنها من دمائهم.

 

 

 

لماذا يرفضون فهم السوري الجديد؟

 

من يهاجم اليوم هذا الرأي العام السوري الناهض يفعل ذلك لأنه فوجئ بهذا الجبل الذي ظهر من تحت الركام. الثورة السورية كانت رأس جبل الجليد، لكن الكتلة الأكبر تكوّنت في صمتٍ تحت وطأة المجازر والجوع والبراميل والانقسامات. وعندما ظهرت إلى السطح، صدمت هؤلاء الذين كانوا يرون السوري مجرد أداة في أيدي القوى الإقليمية والدولية.

 

 

اليوم، هذا الشعب نفسه الذي انتزع كرامته من بين أنياب الجميع، لم يعد يقبل وصاية أحد على قراره. لهذا لم يعد يتقبّل “التنظير” ولا الوعظ من نخبٍ لفظها التاريخ أو من منابر تُتاجر بقضاياه.

 

 

شعبٌ لا يمكن إخضاعه من جديد

 

من يُصوِّر هذا الصوت اليوم كأنه “تأييد أعمى” يغفل حقيقة أن الشعب الذي انتزع كرامته من المجتمع الدولي والقوى الغربية والشرقية ومن النظام البائد والفصائل العابرة للحدود والزلازل والجوع، لم يعد من السهل إخضاعه لأية سلطة بشكل أعمى. حتى الحكومة الانتقالية التي يلتفّ حولها اليوم، يلتف حولها لأنه يرى فيها مشروعاً وطنياً واقعياً قابلاً للتصويب. وهو نفسه الشعب الذي سيحاسب هذه القيادة إن انحرفت، لأنها اليوم نتاج تضحياته، لا العكس.

 

 

هويّة مستعادة ودور عربي جديد

 

السوري اليوم يستعيد هويته وثقافته التي حاولت أطرافٌ عديدة طمسها أو تجييرها. صار أكثر وعياً بأن معركته الحقيقية ليست مع بعض الأصوات الشاردة التي تتصيّد أخطاءه، بل مع معركة بناء دولة وطنية متماسكة، قادرة على إعادة التوازن إلى البيت العربي.

 

 

هذا الصوت السوري هو أكبر مكسب للعرب في هذه المرحلة. فدولة سورية وطنية، عربية الهوية، تعرف جيداً هموم محيطها، هي أكثر قدرة على إعادة ضبط البوصلة نحو قضايا العرب الكبرى: فلسطين، الأمن القومي، تحجيم التغلغل الخارجي، وخلق نموذج حكم متصالح مع شعبه.

 

 

الواقعية التي تغلب الأدلجة

 

ما يُميّز القيادة السورية الحالية، رغم كل التحديات غير المسبوقة من عقوبات اقتصادية وانهيار بنية الدولة وفوضى السلاح والهويات المتصارعة، أنها لم ترفع شعارات مستهلكة، بل تبنّت مقاربة واقعية عملية، فيها هامش للمراجعة والإصلاح، وفيها أذنٌ تسمع نبض الناس.

 

 

إن جوهر نجاح أي مشروع وطني سوري اليوم لا يقوم على شعارات طائفية أو قومية فضفاضة، بل على شراكة حقيقية بين الدولة والناس، من تحت الرماد إلى فوق الجليد. وكل محاولة لشيطنة هذا المشروع أو تسفيهه ستسقط أمام مشهد الشارع السوري الذي بات أكثر يقظة وجرأة على قول كلمته.

 

 

كلمة أخيرة

 

إن السوري يعرف طريقه، ويعرف أين يضع أقدامه، ولا يحتاج من يزايد عليه أو ينظّر له كيف يدير شؤون وطنه. كل ما يحتاجه من أشقائه العرب هو أن يُترك له حقه في بناء هذا الكيان الوطني، ودعمه بالصدق والنوايا الحسنة. ومن يقف معه الآن سيذكره التاريخ العربي الحديث بالخير، ومن يخذله اليوم، لن يكون له مكان في دفاتر السوريين غداً

شارك