مشاركات سوريا
في قلب الشرق السوري، حيث يمتزج التاريخ بالمظلومية، والصمود بالخذلان، تقف دير الزور شاهدةً على مراحل متلاحقة من التهميش، والانتهاكات، والثورة. لم تكن هذه المدينة الهامشية بالنسبة للسلطة سوى مخزن نفط مهمل، ومساحة عبور للقوى المتصارعة، لكنها كانت في وجدان أبنائها وطنًا يستحق الحياة والحرية.
منذ بدايات حكم البعث، مروراً بالثورة السورية، ثم داعش والمليشيات، وأخيرًا خيبات ما بعد التحرير، حافظت دير الزور على روحها الثورية رغم كل محاولات الإقصاء والإضعاف.
تُعد المظلومية والشعبوية من المفاهيم المتكررة في التاريخ السياسي والاجتماعي، حيث تتجلى عادةً في المجتمعات التي تعاني من الإقصاء والتهميش والاستبداد. وتعود جذور الشعبوية إلى الفترات القديمة، حين كان القادة يستندون إلى خطاب عاطفي يستميل العامة من خلال الحديث عن حقوق مسلوبة أو فساد نخبة حاكمة. وتُعتبر الشعبوية أداة ذات وجهين: إحداهما تعبّر عن سخط شعبي حقيقي، والأخرى تُستثمر أداة سلطوية لتوجيه الغضب وتضليل الجماهير.
أما المظلومية، فهي شعور جمعي يتولد عن تراكم من الظلم والإقصاء على مدى سنوات، ما يجعلها أكثر من مجرد ردة فعل آنية، بل حالة اجتماعية ذات أثر سياسي واقتصادي وثقافي طويل المدى. يصف بيير بورديو هذه الظاهرة بقوله: “كل شكل من أشكال المقاومة، حتى إن كان غير منظم، ينبع من إحساس بالظلم المتراكم”. وعندما تتحول المظلومية إلى وعي جماهيري، تصبح حجر الأساس لأي حراك تغييري.
منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، تم تأسيس نظام سياسي مركزي يستند إلى الولاءات العائلية والطائفية والحزبية، ما أدى إلى تهميش أطراف الدولة، وعلى رأسها المنطقة الشرقية. لم تُعامل دير الزور كمنطقة استراتيجية رغم أنها تحتضن أحد أغنى حقول النفط في سوريا، بل جُردت من مؤسساتها التنموية، وحُرمت من التمثيل السياسي الفاعل، وتُركت فريسة للفقر والبُنية التحتية المتدهورة.
كان التعليم في دير الزور ضعيفاً مقارنة بمحافظات مثل حمص ودمشق، والاستثمار في المرافق الصحية شبه معدوم، حتى أنني علمت مؤخراً بأن أكبر مشفى حكومي في دير الزور، والمعروف سابقاً باسم مشفى الأسد غير مزود بنظام صرف صحي، إنما يعمل بنظام الجور الفنية، بينما أول خطوة قامت بها المنظمات الانسانية في أي مخيم استجابت له هو توفير هذا النظام ضمن مخيم كحاجة أساسية. حتى المناصب الإدارية العليا نادراً ما كانت تُمنح لأبناء المحافظة، بل غالباً ما يتم استقدام مسؤولين من خارج المنطقة لإدارتها، في سياق يعكس انعدام الثقة بأهلها، رغم وطنيتهم وتاريخهم العريق.
تشير الدراسات والبحوث إلى أن دير الزور كانت تعاني من تهميش مركّز على مدى عقود، حيث وصفتها تقارير عدة بأنها “مختبر للتهميش الأمني والسياسي”، حيث استخدمت السلطات النظامية المدينة موقع عبور لقوى متعددة دون أن تقدم لها أي خطة تنموية حقيقية. على سبيل المثال، في دراسة نشرتها “مؤسسة جسور للدراسات”، تم التأكيد على أن دير الزور عانت من “إهمال ممنهج في البنية التحتية والخدمات العامة، نتيجة سياسات مركزية ركزت على تعزيز النفوذ الطائفي والحزبي على حساب المناطق النائية” (جسور، 2018).
كما جاء في تقرير لمركز “الشرق الأوسط للدراسات السياسية والاستراتيجية” أن دير الزور عانت من “سياسات تهميش بنيوية تم تطبيقها بصورة منهجية من قبل النظام، حيث تم استبعاد أبناء المنطقة من المناصب السياسية والإدارية، مما أضعف الأطر المجتمعية وساهم في تفاقم الأزمات الأمنية والاجتماعية” (مركز الشرق الأوسط، 2019).
ويؤكد الباحث السوري محمد شحرور، في دراسته حول شرق سوريا، أن “التهميش في دير الزور لم يكن محض صدفة، بل كان جزءاً من استراتيجية لإبقاء المنطقة تحت السيطرة الأمنية، عبر إضعاف المؤسسات المحلية وفرض نمط من الحكم المركزي المباشر الذي قلل من فرص التنمية والتطوير” (شحرور، 2020).
عندما اندلعت الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، كانت دير الزور من أوائل المدن التي خرجت بمظاهرات سلمية تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. لم يكن الخطاب الجماهيري الذي خرج من دير الزور عشائرياً أو مناطقياً، بل وطنياً بامتياز. هتافات مثل: “صب من دمك للحرية”، و”حيّي رجالك يا سوريا”، و”الشعب السوري واحد”، كانت عنواناً لسردية جديدة عبّر فيها أبناء دير الزور عن انتمائهم لوطن شامل.
تلك الهتافات لم تكن مجرد شعارات، بل كانت انعكاساً لهوية تتشكل مجدداً، هوية سورية قاعدتها شعب موحد، لا طائفة ولا حزب. ومن خلال هذه الرؤية، قدّم شباب دير الزور نموذجاً متقدماً في فهم معنى الثورة، حيث امتزج البعد المحلي بالوطني، وخرجت دير الزور من كونها محافظة مهمشة إلى مركز رمزي للثورة.
في 24 حزيران/ يونيو 2011، وقف أحد شبان دير الزور، واسمه عمر الهزاع وكان يلقب بعمار الحاج، في ساحة الحرية وسط مظاهرة ضخمة، لينشد أبياتاً شعرية وطنية بعنوان “حيي رجالك يا سوريا”. كانت القصيدة لحظة وجدانية عالية، صفق لها الآلاف، ورددوا كلماتها بحماسة، إذ حيّت شهداء وثوار كل المحافظات السورية، من درعا إلى حماة، ومن حمص إلى إدلب، ومن بانياس إلى القامشلي، بما في ذلك دير الزور نفسها.
جاءت القصيدة على الشكل التالي:
حيّي رجالك يا سوريا
أقوى من سباع البريّة
لا سنيّة ولا علويّة سوريا وحدة وطنية
سجّل سجّل يا زمان واللي يقتل شعبه جبان
لو هلهلتي يا ديرية واحد منا يقابل مية
عند عيونج يا حمصية نحنا الثوار الديرية
ردوا عليّ ردوا عليّ
ردوا عليّ وعلوا الصفقة وصل صوتك لأهل الرقة
صلوا صلوا ع النبي حيوا السبع الإدلبي
ع النبي صلوا صلوا حيوا زلم القامشلي
يا حر يا ابن الأحرار ما ننسى دم الثوار
يا ديري لا تصيح الأخ فزعة فزعة لتل كلخ
يا رستن الكرامة ثارت دير النشامى
يا تلبيسة الحرية رفعت راس السورية
من الديرية لأهل الشام حيينا أهل القدم
حيي رجالك يا ميدان حي النشامى الشجعان
وصلوا التحية ع البرزة أهل الشيمة وأهل العزة
داريا.. داريا يا مقبرة البعثية
يا حرستا حيينا والحرية موعدنا
ركن الدين المراجل دمي لعيونك سايل
صب من دمك للحرية
سمعهم صوت الديرية
علمهم معنى البطولة
رصاصة وتكبيرة وهلهولة
رصاصة رصاصة بصدر العادي
وهلهولة تزف استشهادي
والتكبيرة لله العالم ينصرنا بها ع الظالم
دمك يا درعاوي دمي
فدوى لعينك خالي وعمي
يا معرة صوتك وصلنا
فدوى لعيونك ابننا
يا شغور يا شغور
ثارت درعا ونحن نثور
يا شغور يا شغور يالكاعك طيب وكافور
يا شغور ترابك حنة رواها بدم بلا ونّة
سوريا ترابك عطشان نسقي من دم الشجعان
ديرية ومن ظهر سباع
نهر الفرات إحنا ولاده
بس إحنا اللي نحفظ أمجاده
اسأل عني الفرنسية
ذبحتهم زلم الديرية
عنا اسأل عنا اسال منا طلع الاستقلال
ديري ديري يا ابن بلادي
اسمع سوريا شو تنادي
نادت فزعة يا أهل النخوة
كلنا واحد كلنا إخوة
حرية نادت يا ديري
والله ما يشعلها غيري
ما حد يشعل نار الثورة
بس الديري ابن الثورة
فزعة يا ديري لا تجبن
صاحت حرة من أهل الرستن
نادت حرة حموية وين النخوة الديرية
بدك تسمع هذا القول
صبر الديري ما عاد يطول
صبر السوري ما عاد يطول
مطلب كل المجتمعين بدنا كل المعتقلين
يا أسد ويا كذاب بدنا قانون الأحزاب
طلع كل قوات الجيش
الشعب السوري بدو يعيش
ما بدنا البعثي يحكمنا
بدنا دستور يوحدنا
يا خاين يا ابن الخاين
الغي القانون الثامن
بدنا حرية إعلام
ما بدنا كلاب النظام
فكك الفروع الأمنية
اشتاقينا لزمن الحرية
قانون الطوارئ باطل
الغي هالقانون الفاشل
صرنا ألفين شهيد
أكثر من هذا شو تريد؟
رصاصك ما راح يرهبنا
بدنا نحقق مطالبنا
طلع مساير تأييد
الغضب الديري راح يزيد
الغضب السوري راح يزيد
شعلة يا ديري صاير
شعلة يا سوري صاير
من أول عمرك ثائر
يا شهيد العون من الله
ما ننسى دمك لا والله
يا شهيد يا شهيد دمك يصهر الحديد
يما ولا تبكين عليّ
دمي فدوى للديرية
دمي فدوى للحرية
يما وسمعيني الهلهولة
ابنك شهيد البطولة
بإذن الله الحي الشافي
ثوروا ع الظالم مو كافي
ردي يا دير النشامى
ع الحسون أبو العمامة
ردي ع البوطي والعادي
هالرخّص دمي وولادي
قتل شباب الديرية
وجسر الشغور الأبية
أبداً والله ما ننسى
قتلوا أهلي بدرعا ولسا
جينا نحرر جينا نحرر
ع الخاين والله ما نصبر
ما نصبر ونريد الثورة
هالقتلوا تلبيسة الحرة
ديرية ومن ظهر سباع
الشعب يريد إسقاط النظام
هذا الإنشاد لم يكن طقساً احتفالياً فقط، بل مثّل رؤية موحدة للثورة السورية، ورفضاً للخطاب الطائفي والمناطقي. إن ذكر جميع المحافظات في القصيدة كان تأكيداً على وحدة المصير، ومقاومة سردية “الهوامش” التي حاول النظام ترسيخها.
وفقاً لتقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بلغ عدد الشهداء في محافظة دير الزور منذ بداية الثورة حتى 2023 أكثر من 10,000 شهيد، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء. تعرّضت المدينة لقصف جوي وبري كثيف من قبل النظام السوري وحلفائه، خاصة خلال سنوات الحصار، ما أدى إلى دمار يقدّر بنسبة 85% من البنية التحتية في مركز المدينة. وتُعتبر دير الزور، كمركز مدينة، الأعلى نسبة في الدمار على مستوى سوريا بأكملها، وفق تقديرات الأمم المتحدة وتقارير منظمات دولية معنية بإعادة الإعمار.
الكاتب حازم نهار أشار إلى أن “دير الزور دفعت ثمناً مضاعفاً، لا لأنها ثارت فقط، بل لأنها ثارت خارج خارطة النفوذ الطائفي والسياسي”، مؤكداً أن ما جرى في المدينة كان أقرب إلى “تأديب جماعي لأهاليها عبر أدوات متعددة، من القصف إلى التهجير إلى الإهمال المتعمد”.
بعد انسحاب جزئي للنظام من بعض مناطق المدينة عام 2012، دخلت دير الزور دوامة من الاحتلالات المتتالية. إذ دخلتها داعش عام 2014، وفرضت على أهلها حكم الرعب والجلد والذبح. وقاوم أبناء دير الزور هذا المشروع قدر المستطاع.
وعندما طُردت داعش، دخلت مليشيات عراقية وإيرانية تحت غطاء الحشد الشعبي والحرس الثوري، ونفذت عمليات تهجير قسري وتغيير ديمغرافي. حتى بعد طرد تلك القوى، جاءتها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي مارست بدورها التهميش والإقصاء، وافتقرت لأي مشروع حقيقي لإعادة الإعمار أو إشراك أبناء المدينة في الحكم بل وساوت الاحتلالات السابقة بذات مستوى الانتهاكات أيضاً.
بعد التحرير في كانون الأول/ ديسمبر 2024، لم تبدأ مرحلة الإعمار كما كان مأمولاً. فقد بقيت المدينة مدمرة، والخدمات متوقفة والكهرباء مقطوعة والمدارس مهدمة، ومجلس محافظة دير الزور، المُعين إدارياً، لم يقدم أي إنجاز حقيقي حتى الآن.
لم تُقدم الحكومة الانتقالية أي دعم جاد، بل بدت كأنها تعتبر دير الزور خارج أولوياتها. ولم تلبِّ حكومة دمشق أي من طلبات الدعم العاجلة فيما أعلن ماجد حطاب، رئيس مجلس مدينة دير الزور، في مطلع 2025، أن المجلس لا يمتلك حتى الآن أي آلية ثقيلة لإزالة الركام.
وفي مفارقة عجيبة من شأنها تغذية المظلومية التي ناقشناها في البداية، تكشف حجم اللامساواة، صرّح أشهد الصليبي، رئيس الهيئة العامة للطيران المدني، بخطة لبناء مطارات جديدة في دمشق وحلب وحمص، في حين ما تزال دير الزور بلا طريق معبدة يصل مركزها بأريافها، أو حتى بإزالة ركام المدينة العالق.
ما يجري في دير الزور ليس أزمة خدمات فقط، بل هو أزمة سياسية تتعلق بمكانة المدينة ودورها في مستقبل سوريا. لقد أثبتت دير الزور أنها مدينة صامدة، مقاومة، وطنية، وثورية. وما تحتاجه اليوم هو مشروع حقيقي لإعادة دمجها في الوطن.
إن الاعتراف بدير الزور يبدأ من إعادة إعمارها وتمكين شبابها والاستماع لصوتها وكتابة تاريخها كما عاشه أهلها. هل تستحق دير الزور كل هذا التهميش؟ هل يُعقل أن تكون محافظة تقدر مساحتها من البوكمال إلى منبج مروراً بالبادية، أي ما يعادل نصف مساحة القطر، محافظة رخيصة في حسابات الدولة؟
على الحكومة الانتقالية، والفاعلين فيها، وكل من يتطلع إلى سوريا موحدة، أن يستمعوا لصوت دير الزور قبل فوات الأوان. فالشباب الديري، الحالم بوطن واحد وعدالة شاملة، قد يفقد ثقته بمشروع وطني لا يرى فيه ذاته. وإن لم يتم إنصاف دير الزور اليوم، فقد تخسر سوريا واحدة من أكثر المدن استعداداً لبناء المستقبل، فقد آن الأوان أن تتحول دير الزور من موقع للشكوى إلى موقع للقرار. لا تنتظر المدينة مِنّة، بل شراكة في صنع الغد.