مدونات
للكاتب: ظاهر صالح
يستمر كيان الاحتلال “الإسرائيلي” في ارتكاب جرائمه الممنهجة في قطاع غزة، وتنفيذ مخططاته الاستراتيجية التي تتجاوز الأهداف المعلنة. وتعكس عمليات القتل والتدمير اليومية رغبة الاحتلال في إنهاء الوجود الفلسطيني من خلال القتل المباشر واستخدام كافة الأشكال والوسائل للقضاء عليه.
يواصل الاحتلال على مدار الساعة ارتكاب جرائم أخلاقية وإنسانية وانتهاكات متنوعة، مما يكشف عن مدى انحداره وتورط الداعمين له. وقد وثّقت جهات رسمية في غزة العثور على أقراص مخدّرة داخل أكياس الطحين التي وصلت إلى المدنيين ضمن ما يسمى “مساعدات إنسانية”، تشرف عليها الولايات المتحدة وكيان الاحتلال.
وذكر المكتب الإعلامي الحكومي في القطاع أن المواطنين عثروا على أقراص “Oxycodone” المخدّرة، وهي من المواد الأفيونية عالية الخطورة، داخل أكياس الطحين التي استُلمت من مراكز “المساعدات الأميركية الإسرائيلية”، والتي بات الفلسطينيون يطلقون عليها “مصائد الموت”.
هذه الجريمة لا تتجسد في غارة أو قصف، بل في صورة “مساعدة غذائية” تحمل في طياتها بذور تدمير نفسي واجتماعي. أكد المكتب الإعلامي في غزة توثيق أربع شهادات لمواطنين عثروا على أقراص مخدّرة داخل أكياس الطحين، مما يرجّح أن الحادث ليس عرضيًا بل ممنهجًا.
المخدّر المستخدم “أوكسيكودون” يُعد من أقوى المسكنات المسببة للإدمان على مستوى العالم، ويُصنف دوليًا ضمن “المواد المؤثرة على العقل”. استخدامه في سياق “مساعدة إنسانية” لا يمكن اعتباره إلا محاولة مقصودة لنشر الإدمان بين الفلسطينيين، في ظل تعرض البنية النفسية والاجتماعية في غزة لضغط غير مسبوق نتيجة الحرب والحصار.
هذه “المساعدات المشبوهة” لا تخضع لإشراف الأمم المتحدة أو أي جهة إنسانية مستقلة، بل تأتي ضمن مبادرة أطلقتها واشنطن وتل أبيب منذ 27 مايو/أيار الماضي تحت اسم “مؤسسة غزة الإنسانية”، وهي مؤسسة غير معروفة سابقًا، وتقوم بتوزيع مواد غذائية في ظروف أمنية معقدة يختلط فيها الجوع بالذل والخطر.
أكدت التحقيقات الصحفية العبرية أن ما يسمى “بالمساعدات الإنسانية” أصبح غطاءً لسياسة القتل الممنهج، فقد نشرت صحيفة “هآرتس الإسرائيلية” تحقيقًا كشف عن تلقي جنود وضباط في الجيش “الإسرائيلي” أوامر مباشرة بإطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين الذين يقتربون من نقاط توزيع المساعدات.
وتؤكد الشهادات أن الغزيين لم يكونوا مسلحين ولم يشكلوا أي تهديد، لكن التعليمات العسكرية كانت واضحة: “أطلقوا النار لإبعادهم”. والنتيجة هي سقوط أكثر من 550 شهيدًا وآلاف الجرحى، لمجرد سعيهم للحصول على كيس طحين أو علبة فول.
هذا النموذج الفج لتسييس المساعدات واستخدامها كسلاح ليس مجرد انتهاك أخلاقي، بل يمثل تحديًا صارخًا للقوانين الدولية التي تنص على وجوب ضمان الحماية للمدنيين أثناء الحروب، وخاصة فيما يتعلق بإيصال المساعدات، ومع ذلك، لم تتخذ أي جهة دولية فاعلة إجراءات جدية لوقف هذه الجرائم.
إن استخدام المواد المخدرة كسلاح هو سياسة استعمارية عريقة، تعود جذورها إلى الحروب الإمبريالية التي شنتها الدول الكبرى لإضعاف مجتمعات خصومها من الداخل، ويبدو أن الاحتلال على الرغم من ادعاءاته بأنه “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” يحاكي اليوم أبشع أساليب الاستعمار القديم، فاستبدل البندقية بحبة مخدرة، والطائرة المقاتلة بكيس طحين مسموم.
وقد حذر المكتب الإعلامي في غزة من خطورة ما يجري، مؤكدًا أن هذا الفعل يهدف إلى تدمير النسيج المجتمعي الفلسطيني، من خلال نشر المخدرات في صفوف الفئات الأكثر ضعفًا، في ظل غياب مؤسسات الضبط الاجتماعي بسبب الحرب والدمار.
وتندرج هذه الجريمة ضمن سلسلة طويلة من الانتهاكات، تضاف إلى الحصار الشامل، وجرائم القتل، والاستهداف المتعمد للبنية التحتية، والمستشفيات، والمدارس، والمساجد.
دُعي أهالي قطاع غزة إلى تفقد جميع المواد الغذائية القادمة من تلك المراكز والإبلاغ عن أي مواد مشبوهة. وتعد هذه خطوة أولى لمقاومة هذا النوع الجديد من الغزو، “غزو العقول والنفوس”، الذي لا يقل خطورة عن القصف أو الاجتياح البري.
تؤكد هذه الفضيحة أن الاحتلال لا يكتفي بإبادة الفلسطينيين عبر الطائرات والدبابات، بل يسعى الآن لإفسادهم من الداخل. والملفت للنظر أن هذه الأفعال تُنفذ في ظل صمت دولي مُخزٍ، وتواطؤ ضمني من بعض الجهات الدولية التي تروج لآلية “المساعدة العسكرية الإنسانية” وكأنها عمل خيري، بينما هي في حقيقتها شكل جديد من أشكال الحرب النفسية.
الأمم المتحدة ممثلة بمفوضها في وكالة الأونروا، لازاريني، كانت واضحة في توصيف هذه الآلية، حين وصفها بـ”البغيضة والمميتة”. وهو توصيف لا يحمل فقط إدانة أخلاقية، بل يفتح الباب أمام إمكانية تحميل الاحتلال المسؤولية القانونية عن هذه الجريمة.
لكن يبقى السؤال: إلى متى ستُترك غزة وحدها، تحارب القتل والدمار والجوع والسمّ الأبيض الذي يأتينا على هيئة كيس طحين؟ وهل سيكون هناك موقف دولي حقيقي، أم أن دم الفلسطينيين لا يزال أرخص من أن يُؤخذ على محمل الجد؟