آراء

حراكات الأشباح: عن انتصارات المسيرة العالمية!

يونيو 28, 2025

حراكات الأشباح: عن انتصارات المسيرة العالمية!

يبدو أيّ فعلٍ جماعيٍّ مشترك، عابرٍ للحدود والرايات، يبدو فكرةً من زمنٍ ولّى، تصطدم بعقول متحجّرة ونفوس مريضة جرفها تيار الكراهية يمينًا حتى لم تعد منحطّة السلوكِ فحسب، بل مشاركةً في الجريمة كذلك، قولاً، أو ممارسةً، أو تبريرًا.

والجيل الذي حلم بالتغيير وناضل لأجله، بعد الخسارة وجد نفسه منفيًّا أو مطاردًا أو معتقلاً، وتفكّكت بتفكّكه شبكات التواصل وأُطر التنظيم والتفكير، وتحوّل السيلُ الجارف الذي ألهم العالم واختطف انتباهه، مجرّد قطرات متناثرة هنا وهناك، تجاد لا تروي ولا تبين، كأنّما -بتعبير أرندت: تدمّر الفضاء العام، الذي يتيح للبشر أن يتحرّكوا ويخلقوا فعلاً مشتركًا ذا معنى.
ثمّ جاءت قافلة الصمود، بعد عديد محاولات لم يكتب لها وُئدت في مهدها بيد القمعِ والعسكر، وخلّفت إحباطات في قائمة آثار الهزيمة التي لا تكاد تنتهي، لكنّ شريحةً في هذا الجيل ظلّت تحاول، وتشارك الفكرة والحركة، قافزةً على حدود الجغرافيا وسدود السياسة، لتخلق فعلاً تنظيميًّا ملهمًا، ناجحًا قبل أن يبدأ، منتصرًا حتى عند قمعه.


لم يكن الأمر مجرّد ناس وأعلام، بل لحظة استعادة لشرط الظهور الجماعي بتعريف شريعتي؟، تواصل والتقى فيه نشطاء من أربع دول على الأقل (يتّسع الأمر تنسيقًا وترتيبًا إلى عدد أكبر بكثير)، حقوقيّون ونقابيّون وسياسيّون غالبهم كان نواةً أو جزءًا من قيادة لمشروع تحرّر مبتسر أو منسحق -2011 في غالب بلدان الوطن العربي المسكين، لم تصل إلى غزّة، لكنّها أوصلت عشرات المجموعات بعضها ببعض، ومنحت الكلّ فرصة للتفكير والتنظيم والحركة، فأعادت تشغيل قنوات سدّت وتشبيك مجموعات انتثرت، وخلّقت إمكانيّة ملموسة وواقعيّة للفعل السياسي الشعبي في المنطقة.

ويمكن اعتبارها -إن أحسن القائمون عليها استغلالها وتوجيهها، حتى بعد قمعها، جزءًا من حروب المواقع، تلك التي تخلق وعيًا مضادًا، لهيمنة السلطة أو إحدى أدوات تفكيكها، كممارسة مضادّة للزمن السياسي الرسمي، خرقًا في جدار شاهق، يتبعه غيره حتى ينهار، إذ تنتج فيه طليعة رؤيتها خارج أُطر الدولة وإعلامها (لعلّي أقصد بالدولة هنا كلّ دولة، لا واحدة بعينها)


التقيتُ وتواصلتُ مع العشرات من المنظّمين والمشاركين.ات في قافلة الصمود، واكتشفنا في كلّ تواصلٍ أنّ المعتقل -الحريّة- فلسطين هم ثلاث محاور التقاء بيننا، توانسة وجزائريين وليبيين وفلسطينيّين ومصريين، حتى مواطنو الغرب والشمال، منذ الطوفان عرفوا الاحتجاز والسحل والضرب كما عرفناه، وإن اختلفت الأزمان والأدوات، تمامًا كما تشاركنا التفتّت بعد الخسارة، التي اختلفت درجاتها وصورها في السنوات الإثنى عشر الفائتة، ومع كلّ جملةٍ محبَطة تًقال حول القافلة ومآلها-بعد أن بدأ القمع العنيف في مصر والترحيل بعد الاحتجاز والاعتداء، والمنع مع القمع والاعتداء في شرق ليبيا، كنت أنبّههم لأنّ القافلة صنعت إنجازًا عظيمًا سنمتنّ له جميعًا في القادم لو أحسنّنا التعاطي معه، ألا وهو إعادة التشبيك والتنظيم.


وهكذا؛ قبل أن تكون القافلة فعل تضامنٍ مع غزّة-وكلّ فلسطين، كانت فعل تضامن مع القائمين عليها والمشاركين فيها أنفسهم، أولئك الذين لم يتستلموا للمعتقلات والمنافي والخسارات، وقرّروا أن يفعلوا شيئًا معًا، لا ليغيّروا العالم أو واقعه دفعةً واحدة، بل ليقولوا إنهم ما زالوا موجودين، وقادرين على الظهور الجماعي، باعتبارهما شرطًا لازمًا لوجود “سياسية” في أيّ حيّز.

لكن ما لا يتردد كثيرًا: أن القمع نفسه -على قسوته وجرمه- دليل إصابة الفعل؛ إذ لا يُقمع الهامشيّ ولا يُلاحق عديم الأثر، بل ما يُخشى أن يحيا ويبقى وينتصر، يعادى ما ينقب ثغرةً في السرديّة الرسميّة والفعل الرسمي، والأخطر: ذلك الفعل الذي يوقظُ أشباح اللحظة الجليلة/المخيفة.

ولذلك جاء القمع الشرس والوقح الذي واجه القافلة والمسيرة في مصر وليبيا وما بينهما في واقع السلطة وذبابها الافتراضي، من الضرب والاحتجاز والترحيلة، علامةً على القوة لا الفشل، وعلامةً على أن السلطة-كل سلطة، يستوى قصور الحكم هنا بالاحتلال- تعرفُ جيّدًا ما تفعل حين تعاجل الفعل الجماعي بالعنف، تمامًا كمن يردم البئر قبل أن يفيض ماؤه.

فالأنظمة لا تبالغ في الردع -بعيدًا عن طبيعتها الإجراميّة تصوّرًا وسلوكًا- إلا حين ترى في الفعل خطرًا يتجاوز رمزيّته، وحتى غايته المعلنة/الصادقة: خطر العدوى، التكرار والإلهام، ومن ثمّ التفجّر الجماعي، لكن ما يُقمع اليوم بقسوة قد يستعاد غدًا كنموذج يتجاوز إحباط اللحظة إن أحسنّنا التجسير.


والعدوى هنا ليست انتقال الحدث، بل الإحساس؛ وربّما بعض الأعراض، وما أدراك ما أعراض الفعل الثوري! تحريض للخيال السياسي/الثوري، وتنشيط الحنين للحظة الفارقة، دون إغفالٍ لمواطن الخلل فيها، تلك التي أودت بها وبنا لـ الآن (بما فيه من هزائم جماعيّة وردّات)، فكما تسري الهزيمة بفعل التكرار والتتابع وتتسع، تسري العدوى من لحظة استثناءٍ كهذه تُثبتُ أنّ ما بدا مستحيلاً ما زال ممكنًا، وكأن أهمّ ما في الفعل هذه المرّة هو كونه دعوة مباشرة للآخرين كي يفعلوا، وكأن وظيفة القافلة الأهمّ لا أن تغيّر الواقع دفعةً واحدة بل أن تعيد الإيمان بالفعل المشترك وتخرج العمل إلى فضاء أوسع من التضامن والتفكير والتنظيم والحركة؛ وما قمع اليوم سيهيمن غدًا أو بعد غد، وما بدا رمزيًّا اليوم سيكون هو الواقع بعد قليل.

شارك

مقالات ذات صلة