من “طوشة النصارى” 1860 إلى تفجير مار إلياس: هل تعلّمنا؟
يونيو 27, 2025
16
من “طوشة النصارى” 1860 إلى تفجير مار إلياس: هل تعلّمنا؟
– أحمد الياماني
في صبيحة 22 حزيران/ يونيو 2025، هزّ تفجير استهدف كنيسة مار إلياس في ضاحية دمشق دويلعة المشهد السوري، وسط صلاة النصارى. قتل ما لا يقل عن 25 مدنياً وأصيب أكثر من 60 آخرين. لم يكن الحدث مجرّد عمل إرهابي بل لحظة استدعاء مؤلم للذاكرة: من “طوشة النصارى” 1860 إلى اليوم، ما زالت دماء المسيحيين تُسفك، وأصواتهم ترتجف بين الخوف والخذلان.
طوشة النصارى وتكرار الذكرى
في عام 1860، عندما اندلع العنف الطائفي في جبل لبنان وامتد إلى دمشق، ارتكبت مجازر بحق آلاف المسيحيين، وسُحقت أحياء بكاملها تحت نيران الغوغاء. يومها، غابت الدولة، وتمزّق النسيج الأهلي، وتحول الاختلاف المذهبي إلى سلاح. واليوم، بعد أكثر من قرن ونصف، ما تزال الصور تتكرر وإن تغيّرت الأدوات واللاعبون.
تفجير مار إلياس.. و”التشبيه الثقيل”
البطريرك يوحنا العاشر، خلال كلمة تأبين ضحايا تفجير الكنيسة، قال إن ما جرى “لم يحدث للمسيحيين في سوريا منذ طوشة النصارى”، وهو تصريح لاقى تضامناً واسعاً، لكنه كذلك أثار جدلاً ونقداً كبيراً حتى بين المسيحيين أنفسهم.
ففي نظر الكثيرين، لم يكن هذا الهجوم الإرهابي المفجع رغم فظاعته أسوأ مما حصل للمسيحيين وسواهم خلال سنوات الحرب السورية، خاصة في ظل النظام البائد. ألم تُفجَّر كنائس في حمص والقصير؟ ألم يُعتقل شبابٌ مسيحيون من المعارضين للنظام؟ أليست بعض الكنائس قد دُمّرت بالقصف الحكومي لا الإرهابي؟ ألم يُرغَم عشرات الآلاف من المسيحيين على الهجرة بسبب الحرب؟
إذا كان من تشبيه، فيجب أن يَسري على كل الجرائم التي طالت السوريين، لا أن يُستخدم بصيغة تمييزية قد تُفسَّر طائفياً. إذ إنّ مهمة البطريرك في لحظةٍ كهذه ليست تصعيد الألم، بل توحيد المجتمع، وتحويل الحزن إلى مطالب وطنية شاملة لا فئوية.
مسؤولية الدولة لا تُلغى
تصريحات البطريرك حملت في طيّاتها أيضاً تساؤلات مشروعة: أين كانت أجهزة الأمن؟ لماذا لم توفَّر الحماية لكنيسة تقام فيها صلوات منتظمة؟ لماذا نكتفي دائماً بردّات الفعل بعد وقوع الكارثة؟
الدولة السورية، إن كانت جادّة في بناء عقد اجتماعي جديد، فعليها ألا تميّز في الأمن بين حي وحي، ولا بين جامع وكنيسة. الإرهاب لا يستهدف فئة بعينها، بل يقوّض الاستقرار الوطني، ويضعف هيبة الدولة ويجعل من سوريا أرضاً رخوة.
ماذا يجب أن يحدث الآن؟
– محاكمة علنية وسريعة لمنفذي التفجير ومن يقف وراءهم. – حماية مستدامة لدور العبادة، خاصة في المناطق التي تستعيد نشاطها الروحي بعد سنوات من الحرب. – خطاب وطني جامع يصدر عن الدولة وعن الرموز الدينية، لا يفتح أبواب الفتنة بل يُغلقها. – الاعتراف بالماضي: لا مصالحة دون مواجهة الحقيقة كاملة، بما فيها الجرائم التي وقعت في ظل الأنظمة السابقة، سواء ضد المسلمين أو المسيحيين أو أي مكوّن سوري.
رسالة إلى المسيحيين السوريين
المسيحيون في سوريا ليسوا غرباء، بل هم من بناة هذا الوطن، ولكن استمرار هذا الدور يتطلب شراكة فاعلة، لا انعزالاً في دور الضحية. عليهم أن يكونوا جزءاً من النسيج المدني، لا مجرد صوت للشكوى. الدولة تحتاج حضورهم، والمجتمع يحتاج قيمهم، لكنّ ذلك لا يتحقق بالخوف ولا بالشروط المسبقة، بل بالحوار والجهد والتفاعل.
بين التاريخ والذاكرة
تشبيه تفجير مار إلياس بـ”طوشة النصارى” فيه دلالة رمزية، لكنه أيضاً يحمل خطر تضخيم الألم الفردي على حساب المشهد الجماعي. نعم، الجريمة وقعت، والدماء سالت، لكن الذاكرة السورية مليئة بما هو أشنع، من قصف المدارس إلى اغتيال المعارضين تحت التعذيب.
ما تحتاجه سوريا اليوم ليس خطابات الطوائف، بل خطاب الدولة. ليس بكاءً من النوافذ الكنسية، بل صوتاً وطنياً يرتفع من كل منبر ومسجد وكنيسة، ليقول: لا تفرقة بين الضحايا، ولا درجات للشهادة، ولا انتقائية في الحزن. وحدها الدولة إذا أدّت دورها تستطيع أن تحمي النسيج، ووحده الشعب إذا استيقظ قادر على ألّا يسمح بعودة التاريخ في أقبح صوره.