آراء
وحدك في نفق، أو وحدك في كمين، أو وحدك في جبهة تتحيّن لحظة مناسبة، أو وحدك في خط الدفاع تذود عن عرض البلاد وأهلها، أو وحدك في مواجهة المدفع والبرج والأباتشي والقناصة، أو وحدك حاملا تمرتين وعمرين وحياة ما بين موتين، أو وحدك في مقارعة مارد يقارعك، أو وحدك وحدك مسجى في دمك، مغسلًا في دمع إخوتك، مكفنًا في قماش جعبتك، معطرًا بمسك الآخرة، أو وحدك وحدك في قبضة قاتلك، يأكل لحمك حيا، ويشرب دمك مصفَّى، أو وحدك وحدك في القفز بين جبهتين، وعلى كل شبر حقل ألغام محتمل، تتغير الجبهات والصفات والمهمات، تتبدّل العبارات والحروف والحركات، يستحيل كل شيء ويتحول شيئًا آخر، عدا “وحدك”، هي الثابت الوحيد بين كل هؤلاء.
لا أحد معك سواك، ومن كثرة ما يشبه بعضكم بعضًا، فإن اجتماعكم لا يضيف فردًا إضافيًا، وإنما يضفي روحًا على المجموع في هيئة إنسان واحد، ضخم، هائل، نحيل رغم عملَقته، محدود رغم سعة عينيه، مكبل رغم سخاء يديه، وليس من آخر في المكان، المكان كله أنت، والآخر كله من يريد فناءك، من ينشد خلوده على بقايا عظامك، من يظن بقاءه قدرًا محتوما على حِس خيانة الآخرين حولك، ولكن حسبك أن قدميك مغروستان في الأرض، تتبوأ منها شرفًا حيث تشاء، يصيب برحمته من يشاء، ولا يُضيع أجر المحسنين.
لا أحد يعني لا أحد، لا نصير دنيوي، ولا مؤازر إلا من قلة صادقة لا تساوي الكثير في تعداد الغثاء، ولا داعم يقوّي ظهرك مع كثرة الضربات عليه، وتناثر الشظايا فيه، ولا مبايع على الموت إلا من مات رغم أنفه من حيث لم يُرِد، ولا أحد مستمرًا للنهاية، ولكل حجته، ويكفي البعض ما قدم، ولا يكفي البعض أنه أخر ما أخر، فدفعتَ الثمن يا أخي مضاعفًا، وحدك تتكفل بمستحقات كرامة أمة كاملة، أنت الوحيد المليوني تجد نفسك لحظة الدفع مطالبًا بسداد ديون المليار الكثيف، ولا أحد سيدفع حساب أحد، إنما تدفع كل ذلك حسابك وحدك، وكل ما زاد عنه فهي ديون معلقة في رقاب الجميع سواك، وسيسددونها، ولو في الفناء، أو في الخلود، كل حسب موقعه من الخيانة أو الخذلان أو العجز، أو الاستعمال من جديد.
وحدك يابن أمي، تناطح من حاصروك وحدك، وقطعوك عن كل من حولك، ليس بتسييج حدودك، ولا بحبس مياهك، ولا بطعن أراضيك، وإنما بإلجام جمع غفير، بتقييض خفير على كل شعب، يمنعه المناصرة ولو بالهتاف، والخروج ولو إلى مسير، بل ويقمع الحاجين إليك من كل فج عميق، فيوقف رحالهم، ويبدلهم عنهم ترحيلا إلى بلادهم، وكأن لسان حاله يقول: “مفيش حد هيناصر هنا”، لأنهم لا يفهمون ذلك المعنى، ولا يعرفون كيف يطوي الإنسان الأراضين لأن به دمًا يفور.
وحدك يا أخَيَّ، وحسيبك الله، تسوق طوفانا بأكلمه إلى حيث أمره الله، تخيل كيف يروَّض محيطٌ هائج من على متن خشبة عائمة، وتهزم جيشا كاملا مدججا بالسلاح غزاك على متن دباباته وجرافاته وطائراته وبوارجه وغواصاته من على متن قدميك، حافيا تجري، فتجريهم حفاة، يحاصرونك فتحسرهم، ويجتمعون عليك فتفرقهم بقذيفة أشتاتا، كل شلو في زاوية، وكل رفيقين منهما يتبادلان الأيدي والأقدام، وكل كتيبة تجر خلفها ذيول الخيبة، وخردة النيمر والميركافاه.
وحدك يا حبيبي، ولستَ خارقا، ولست أسطورةً، ولسة رواية من خيال، ولكنك معجزة، وثمة فارق كبير بين الأسطورة والمعجزة، فالأولى ينسجها البشر ليركنوا إلى عجزهم، أما الثانية فيصنعها الله لتكون حجةً على ركونهم، وأنت أنت، لكن اختلف الناظرون إليك بين هذا وذاك، بين من يريدك مسلسلا لا ينتهي، وفيلم سهرة يطول، ورواية مسليةً ينتقي بين فصولها، وقائمة واسعة من المشاهد يتفاعل معها دون أن يحرك سوى رسغه يقلّب “الريموت”، وبين من يستشعر أنه خذلك فيكتوي بنار ذلك كل يوم، حتى تستحيل الحرارة في جوفه إلى حركة في عمله، فيبلغك نصره إياك، ويبلغه عفوك عنه، والله من فوق سبع سماوات يعلم المفسد من المصلح، ويعلم المنافق ممن تولى وعيناه تفيض من الدمع.
وحدك وحدك، يأتيك البعض ويخليك البعض، ينضمون دهرا وينفضون دهرا، ووحدك أنت في مكانك، لا تغادر ثغرا ولا تحرك قيد أنملة، ولو أقنعك أي من كان أنه سيتولى الجبهة مكانك، فإنك لا تدعها لأحد، تمضي كأنك آخر جندي في جيش النبي، تذود كأنك لو فنيت فنت الأمة من ورائك، وما يضيرك أن تطلب الأمة فناءها، لكنها أمانة وليتها، وليس يشغلك أن لا يعرف المؤتَمنون ثقَلهم، لكنك تعرف من ائتمنك عليهم، وفي ذلك كفاية.. ترى بروحك آخر ثلة تنافح عن دين الله وأرضه وعباده المقهورين، آخر من تبقى بين الخليقة، تزرع الفسيلة في ماسورة بندقيتك، ثم تطلق فتطرح الأرض شهداءً منك، وتتقيأ قتلى من المعتدين، لتواصل نضالك قابضا على الجمر، يمضي العمر ولا تمضي معه، تظل طفلا، تظل شابا، تظل كهلا، تظل شيخًا، تظل صورة، تظل شعارا، تظل عظاما، تظل قبرا، تظل حجرا، تظل سرا، ولا تغادر إلا حين تعود البلاد، حين ستكون إقامتك في قطعة من فلسطين على أرض السماء!