سوريا بين الدولة المدنية والتشدد الديني: اختبار التعايش بعد تفجير مار إلياس
يونيو 25, 2025
23
سوريا بين الدولة المدنية والتشدد الديني: اختبار التعايش بعد تفجير مار إلياس
– عمار البزم
في خضم التغيير السياسي الذي تشهده سوريا اليوم، وتجسيدًا للمأساة التي عمّت البلاد، إذ شهدت في 24 حزيران/ يونيو 2025 تفجيرًا إرهابيًا استهدف كنيسة مار إلياس في دويلعة، نفّذه شخص متشدد ينتمي إلى الفكر السلفي الجهادي، أودى بحياة عشرات المصلين وأصاب العشرات بجراح بالغة، فتجلّت مأساوية العمق الذي وصل إليه الصراع الداخلي بين الحكومة السورية الجديدة والتيار السلفي حيث تبرز رواية الصراع الداخلي كمرآة تعكس صدامَ رؤى وأيديولوجيات تتقاطع عند مفترق الدين والدولة.
من جهة، تمتلك الحكومة السورية الجديدة شرعيةً مدعومةً بتوافقٍ نسبي بين طيفٍ واسعٍ من الأحزاب والقوى الاجتماعية والدولية التي تسعى إلى تأسيس نظامٍ ديمقراطي يضمن حرية المعتقد والتعبير، ويعيد توزيع السلطة بعيداً عن مركزية الفئة الواحدة. ومن جهةٍ أخرى، يقف التيار السلفي الذي ارتبط اسمه طويلاً بمناطق الشمال الغربي والبادية، كقوةٍ مستقلةٍ عن هذا المشروع، يرى في التحول الديمقراطي تهديداً لأصول الدين وأحكام الشريعة التي يؤمن بأنها ملاذٌ للمجتمع من حالة الفوضى والتشتت.
تنطلق الحكومة الجديدة من مواقعها الرسمية لتشييد مؤسساتٍ مدنيةٍ تشاركية، وتنجز أولى خطواتها عبر إصدار قوانين تفتح المجال أمام حرية الصحافة، وتشرّع الحق في تكوين الأحزاب، وتعمل على تشكيل برلمانٍ تمثيلي يضمّ شيوخاً ومثقفين ومدنيين. تحاول من خلال هذه الخطوات تصويب ميزان العدالة الاجتماعية، وتقليص نفوذ الأجهزة الأمنية المركزية الموروثة، فتجنح إلى سياساتٍ تستميل فيها المشتغلين بالعلوم الشرعية، وتمنح روح الدستور الذي وُضع حديثاً مكانةً ساميةً فوق كل تشريعٍ آخر.
غير أن التيار السلفي كان في الماضي القريب منخرطاً في إدارة مناطق كاملة، حيث صاغَ نماذج حوكمة مبسّطة وفقاً لفهم خاص للشريعة، وفرض تقاليده على الأهالي بخطاب ديني صارم. ومع صعود الحكومة الجديدة، وجد مسؤولو هذا التيار أنفسهم أمام معضلةٍ تحديدية: إما التكيف مع نظامٍ لا يعترف بخصوصية تطبيقهم الفقهي، أو العزوف والمقاومة. وكثيرٌ منهم اختار التمايز، فاكتفى ببث بيانات الرفض أو الانسحاب من عمليات المشاركة السياسية، وأعاد تأكيد رؤيته التي تعتبر أيّ تغييرٍ دستوريٍ دون التمسّك بالحاكمية الإلهية انقلاباً على شرع الله.
على صعيدٍ فلسفي، يثير هذا الصدام أسئلةً حول أحقية العقلانية المدنية في ضبط الشعوب، وسط إلحاح الصوت الديني الذي يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة. ويتجلى هنا صراع فلسفي مصيري عميق بين منظوريّ العقلانية المدنية والدعوات الثيوقراطية المطلقة؛ فبينما الأول يرى في الدولة المدنية فضاءً حيوياً لحماية الحقوق الجماعية والفردية، ويعتبر الدين شأناً شخصياً لا يجب أن يتحكم في قوانين العيش المشترك، بينما ينظر الثاني إلى الديمقراطية بوصفها قشرةً زائفة تغفل عن جوهر التكليف الإلهي ومسؤولية المجتمع أمام خالقه.
في نهاية المطاف، فإن مأزق سوريا لا يكمن فقط في إعادة بناء مؤسساتٍ هشة، بل في التوفيق بين هذه الأطراف المتنافرة. فهل ستنجح الحكومة الجديدة في استيعاب التيار السلفي ضمن إطار قانوني موحد يعترف بالتعددية، أم سيبقى الصراع مفتوحاً على جبهاتٍ متعددة تضع المستقبل السوري تحت رحمة اختبارات التوازن بين حرية الديمقراطية وثوابت الدين؟ الوقت وحده كفيل بإظهار مدى قابلية هذا اللقاء المعقد على الاحتواء والتعايش، أو على الانقسام المزمن الذي يثبت فشل الأطراف جميعاً في رسم مصيرٍ مشترك.